تحقيقات وتقارير

الدكتور عمر مصطفى شركيان في سلسلة أعرف ثقافتك (2)

في سلسلة أعرف ثقافتك (2)

الدكتور عمر مصطفى شركيان

shurkiano@yahoo.co.uk

ما من مرء يشاهد العروض الفنيَّة، أو الرقصات النُّوبويَّة الثلاث أدناه، حتى يُخال إليه أنَّه ينظر إلى رقصة واحدة لقبيل نوبوي واحد، لكن بنغمات لحنيَّة متباينة. في واقع الأمر، ما يشاهده المرء ما هو إلا عروضاً فنيَّة لثلاث فرق موسيقيَّة، ولثلاث قبائل نوبويَّة مختلفة؛ اثنتان منها يجمعهما التقسيم اللغوي كما جاء في التصنيف الذي اعتمده عالم اللسانيات البريطاني رونالد ستيفنسون لقبائل النُّوبة في جبال النُّوبة، وذلك في كتابه الأشهر “شعب النُّوبة في مديريَّة كردفان” (The Nuba People of Kordofan Province)، الذي نشرته دار جامعة الخرطوم العام 1984م، حيث صنَّف قبائل النُّوبة إلى عشر مجموعات لغويَّة، وتلك حكاية أخرى لن نستطرد في أمرها، بل سنعود إلى ذاتها لنقول فيها قولتنا حين يحين الحين. أما الأداء الفني الثالث فهو لقبيل نوبوي آخر يقع في إطار تصنيف لغوي آخر، حيث يضم إلى جانبه كل من والي أم كرم، وتيسي وفرع من كيقا، حتى لا أذكر النعوت المسيئة الاحتقاريَّة، التي أطلقها من أطلقها على أهالي هذه الفروع القبليَّة، وألحقها بها على سبيل الازدراء، وهم العرب، وما هم بالعرب العرباء، أي الصُرْحاء الخُلَّص، وبئس الاسم الفسوق.
بيد أنَّ تقارب الأداء في القبيلين جلوط (أي جلد، بضم الجيم واللام)، وكالك (أي أهالي كتلا)، مما يشبه التطابق النمطي في الإرسال الغنائي، وهدير الشباب والشيب معاً وسط الضجيج والعجيج، واصطفاف النساء جيئاً وذهاباً، وقد تزيَّن بثياب من النمط القشيب؛ كل ذلك قد يجعل المرء يفكِّر ويقدِّر. إذ ربما اهتدي المرء بتفكيره وتقديره إلى نتيجة استخلاصيَّة مفادها أنَّ هذه القبائل النُّوبويَّة كانت في الأصل أمة واحدة، وقد اضطرَّتهم إغارات الأعداء، والمجاعات المختلقة، والتقلُّبات المناخيَّة وغيرها من صروف الحياة المتمثِّلة في ظلم الإنسان لأخيه الإنسان أن يرتادوا مغارات الجبال ينحتون منها بيوتاً آمنين، إلا من لدغات أفاعي الكراكير، ويعيشون في عزلة قسريَّة عن بعضهم بعضاً، ثمَّ تباينوا في لغاتهم وعاداتهم قليلاً، بحيث أمست تختلف عن بعضهم بعضاً بشيء من الاختلاف طفيف.
مهما يكن من شيء، ففي رقصة أهل جلوط، أي كما يسمَّون أنفسهم، يتغنَّى الفنَّان في أحد أبناء القبيل، وهو ذاك الذي يُسمَّى أبو كلان، ثمَّ هو الذي وقع في الأسر في حربٍ أهليَّة، وقيَّده من أسروه، ثمَّ أخذوه أسيراً مقيَّداً، وبات لا يكاد يلوي أو ينوي على شيء. حينئذٍ أرسل إلى شقيقه يطلب منه النجدة والفدية، وذلك في رسالة يحثه فيها إلى إحضار بقرتهم الوحيدة الموجودة كوديعة لدي أحد الأشخاص كفداء لإنقاذه من الاعتقال، وفي سبيل فك الأغلال. كان الأسير يناجي أخيه، وإنَّ في نفسه لحسرات. لا مريَّة في أنَّ للغنوة إيَّاها قصَّة وتاريخ، والتاريخ نوع من القصص تنتفع به العقول الراجحة المتطلعة إلى المعرفة، وكل قصَّة عن الحقيقة سيرة يكتبها القصصي عن نفسه، وخير قاصٍ من يقصُّ عليك حوادث روحه ووقائعها بين آيات الفن.
بيد أنَّ الرقصة الأخرى لقبيل كالك، أي أهل كتلا، وكالك هو اسم جبل يتوسَّط منطقة كتلا عند قرية دالو، فإنَّها تُسمَّى “أنبانق”، وتُودَّى عادة بعد الحصاد، وفي مناسبات تأبين زعماء القبيل. وكذلك في مناسبات تنصيب الشباب، علاوة على ذلك يمكن أن يتمُّ الرَّقص بها في مناسبات الأفراح كالزواج، والخدمات الاجتماعيَّة كالنفير وغيرهما. إذ يُسمَّى الطبل الذي يُضرب عليه أثناء أداء هذا النمط من الرَّقص بنفس الاسم ذاته، أي “أنبانق”. ففي الفيديو المعروض يتمُّ الأداء الغنائي بأكثر من أغنيَّة واحدة، ربما كان هذا الأداء أشبه بالمنولوج (Monologue)، والغنوة في بادئ الأمر تتحدَّث عن الفنَّانة حنان بلوبلو؛ أما المعزوفة الأخرى فهي تلك التي تحكي عن موضة الثوب السُّوداني الذي يُسمَّى كرسي جابر. على أيَّة حال، يعتبر “أنبانق” من أجمل الرقصات عند قبيل كالك، وتحبُّها النَّاس حبَّاً جمَّاً.
أما الرقصة الثالثة فهي لقبيل أورونقي، أي أهل تيمين، وإنَّها تُسمَّى “وولات”، ويمارسها الشباب والشيب على حدٍّ سواء، ويرقصن بها الفتيات والنساء، ثمَّ إنَّها ليتغنَّى بها عموم أهل القرية. في حقيقة الأمر، إنَّ الأغنية إيَّاها لسياسيَّة فهي تشيد بمواقف الجيش الشعبي لتحرير السُّودان البطوليَّة، وتبشِّر ببزوغ السُّودان الجديد ذي الملامح الإفريقيَّة، وتهدِّد وتتوعَّد الجنجويد، كما هو جلي في أبيات القصيدة الغنائيَّة التي يتخللها بعض الكلمات العربيَّة؛ إذ تقول كلماتها:
جنجويد.. جنجويد وين يا
وينو.. وينو
السُّودان طلع.. جديد طلع أفريكا
دايرين حريَّة SPLA Oye
قرَّرنا ركوب الطيارة إلى الخرطوم جوَّة
مسافة.. مسافة تلقاني في اليمن
الجنجويد.. الجنجويد
يعتبر الفن والغناء واللحن الطروب تراثاً شعبيَّاً في إفريقيا، ويأتي أداء هذا النمط من التراث مستصحباً الحرف الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، والطقوس الروحيَّة. فعلى سبيل المثال لا حصريَّاً يتمُّ الأداء الغنائي في النفير الشعبي في تجهيز الزراعة، وحصاد المحاصيل، ودرس الحبوب الغذائيَّة، أو أثناء أداء الشعائر الدينيَّة وغيرها. فهناك ثمة أغاني تغنِّيها النساء، وأخريات ينشدها الرجال حسب نمط الرَّقص والأداء، الذي قد يكون على شكل دائري، أو شبه دائري، ثمَّ هناك ثمة رقصات تتطلَّب السرعة في الأداء، مع القوَّة البدنيَّة لطرق الأرض في تناسق تام مع النغمة الموسيقيَّة، وإثارة الأتربة حتى تملآ عنان السماء، وصفقات الأيادي النسويَّة تعلو ثمَّ تعلو، وهناك أحد الشباب وقد شمَّر عن ساعديه، وظلَّ يضرب الطبل ضرباً فيئن وتحن، ولكن دون رحمة من هذا الطارق الذي يحمله على خصره، وقد شُدَّ بواسطة حبل متين، ثمَّ هناك الفتاة الجالسة الحادبة على طرق قطعة معدنيَّة من الصفيح كجزء من آلة نحاسيَّة. إذ يتجلَّى هذا النمط من الرَّقص في لعبة “الكرنق”، وهي رقصة شعبيَّة يكاد يرقصها جميع شعب النُّوبة، وفي المناسبات المختلفة. برغم من أنَّ هذا النمط من الرَّقص يعتبر طرباً خلاباً، إلا أنَّه في الآن نفسه يمثِّل رياضة بدنيَّة منقطع النظير، وقديماً قالوا “الجسم السليم في العقل السليم”.
إنَّ أروع ما أعجبني في المهرجان السنوي الذي كان يقيمه أبناء النُّوبة في العاصمة القوميَّة الخرطوم حتى عهد قريب، هو ذلك الحشد الجماهيري الأعظم. وها نحن نقف إجلالاً وإكباراً لأولئك الذين كانوا على أمر هذا المهرجان السنوي عاكفين عليه، وقائمين به. إذ ظلَّ المهرجان يجسَّد تلاحم قبائل النُّوبة المختلفة في ذاك المحفل السنوي برقصاتهم المختلفة، ومعارضهم التي يعرضون فيها منتجات جبال النُّوبة، وأعمال أهلها من الحرف اليدويَّة، وكذلك مما كانوا يمارسون من رياضة المصارعة، التي أخذوا يمارسونها ويداومون عليها في العاصمة، حتى بات تراثاً قوميَّاً وعالميَّاً على حدٍّ سواء، ومنذئذٍ ظلَّ يسرُّ الناظرين، ويبهج الزائرين. إنَّ في ذلك العمل إثباتاً لثقافة النُّوبة، ونقلها من القرية إلى العاصمة، حتى يتعرَّف عليها، ويتشرَّب بها، الجيل الذي وُلد وترعرع في العاصمة، وكاد لا يعرف شيئاً قليلاً أو كثيراً عن ثقافته الأم، وذلك بفعل سياسة التعريب والأسلمة، التي ظلَّت الأنظمة الخرطوميَّة تنتهجها منذ ميلاد استقلال البلاد العام 1956م. ولطالما أنكرت تلك الأنظمة ثقافتنا، غير أنَّ الإنكار ليس من شأنه أن يبدِّل في واقع الأمر شيئاً.
لقد سردنا نماذج من الأدب الإفريقي في سفر أسميناه “بطولات وملامح من الأدب الإفريقي”، وقد جادلنا في ذلكم الكتاب حول أهميَّة الفن في وجدان الإنسان الإفريقي، وكيف لعب ذاك الفن دوراً فعولاً كترياق نفسي لضحايا الاسترقاق الأفارقة، حين كانوا يساقون زرافات ووحداناً إلى العبوديَّة وهم ينظرون. إذَّاك كانوا يتغنَّون بأغاني تشي بأنَّهم يوم يبعثون أحياءً سوف ينتقمون عن أنفسهم من الذين استرقوهم في هذه الدنيا الفانية في بادئ الأمر. النَّاس في إفريقيا عموماً، وجبال النُّوبة خصوصاً، تتنفَّس هواء الغناء، وترتوي من مائه، وتستظل تحت سمائه. ومع ذلك، نستطيع أن نقول لعلَّ الفن يلين القلوب، ويطفئ نار الهوى، ويبسط جناح الرحمة، لذلك قيل علَّموا أبناءكم الفنون، ثمَّ أغلقوا السجون.
في نافلة القول، نستطيع أن نقول هنا لقد وهب الله الواهب العطَّاي أي مجتمع بشري لغته الخاصة به للتواصل الاجتماعي، والتبادل الثقافي. ففي اللغة مفاتيح فكريَّة، ومداخيل ثقافيَّة. بناءً على ذلك، لا يمكن أن تغدو أيَّة قيمٍ ثقافيَّة معروفة لدي العامة والخاصة دون أن تكون هناك ثمة لغة توضِّحها وتفسِّرها. انطلاقاً من ذلك يُقال دوماً إنَّه من دواخل فجاج الأرض ومجاهيلها ينبغي أن ينبثق جيلٌ يكتشف رسالته الثقافيَّة، ويلتف حولها، ويفي بأغراضها، ثم يستظهرها علانيَّة على العين والرأس، ويذيعها في النَّاس. وها نحن الآن قد أدركنا بأنَّ شعباً أي شعب دون ثقافة أشبه بعربة بلا ماكينة. عليه، فإنَّ هجران اللغة هجراً مليَّاً لتنقرض يعتبر عيِّنة من الموبقات التي لا تُغتفر، وبخاصة إذا سمح جيلنا الحالي ذلك، وفرَّط في لغته وثقافته. دعنا نحن معشر السُّودانيين عامة، والنُّوبة خاصة، ندعو إلى الاعتناء بهذا الأمر الجليل، ونكدُّ في هذا الشأن كدحاَ شديداً، وعلينا أن نعتز بلغاتنا الوطنيَّة، وأغنياتنا الشعبيَّة، ثمَّ يستوجب علينا أن نكدح في مدح قيمنا الثقافيَّة والاجتماعيَّة، لأنَّها تمثِّل هُويَّتنا الوطنيَّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى