كتاب واراء

د. فاطمة عبدالله : النزوح خيار الاضطرار .. مشاكله وآثاره

همس الخواطر : د. فاطمة عبدالله

مع بداية حرب 15 ابريل بين الجيش ومليشيا الدعم السريع غادرت ملايين الأسر في الخرطوم  بيوتها بالملابس التي كانت عليها .. وتركوا وراءهم كل ما يملكون ، لأنهم ظنوا أنها أياما معدودات وسيعودون الى بيوتهم ..
غادروا بلا خطط فالتفكير في تلك اللحظة كان منصبا على حماية أرواحهم ، فتفرقوا في ولايات السودان المختلفة وأقاموا حسب ما توفر لهم مع الأقارب ، الاصدقاء ، أو الايجارات ، أو المدارس وداخليات الجامعات .. ونحوه ..

اكتظت البيوت بالنازحين .. من القرابات والأصدقاء .. واستقبلهم الناس بقلوبهم قبل بيوتهم .. لأن الكل كان يعتقد أنها أيام وسيعود الوضع الى طبيعته .. فكانت فرصة لتقارب العائلات التي تباعدت بأختلاف الأمكنة  ، وبالنسبة لبعضهم كانت عودة لديار فارقوها منذ عقود ، فاعادت صلات انقطعت اواصرها من سنين .. وخلقت علاقات جديدة نتجت عنها مصاهرة وفتحت أبواب أرزاق ..
ولكن كل هذا لم يخلو من مشاكل خلقها القرب الشديد واكتظاظ البيوت بالأفراد . . مع قلة موارد الدخل ، وافتقاد أهل البيت لخصوصية حياتهم،  عمّقتها  طول فترة الحرب   .. فتحول الترحاب بالضيوف عند البعض الى ضجر ملحوظ ..
النزوح لم يكن اختيارا لمن غادروا بيوتهم ، سواء لداخل السودان أو خارجه .. اضافة الى أن التوقع القريب لنهاية الحرب جعل كثير منهم في وضع الانتظار مما حال دون وضع خطط للقادم من حياتهم .. وكثير منهم كانوا في حال صدمة وذهول غافلين عما يجري حولهم من المعارك الصغيرة التي كانت تجري بين الافراد في البيوت بسبب  الاكتظاظ وعدم الراحة لتغير نمط الحياة التي عرفوها ، سواء للنازح أو لأهل البيت .. فبيت المرء هو مصدر راحته .. وهذا ما افتقده النازح والمُستضيف ..
مع طول أمد الحرب وزيادة عدد النازحين بزيادة سقوط المدن ، ونزوح ما يقارب ال 10 مليون من مناطقهم داخل أو خارج السودان ، فكانت هذه الحرب فرصة ليتعرف الناس على أنفسهم ، وطريقة تعاملهم مع الصدمات والأقدار المؤلمة والفقدان ، سواء كان للأرواح أو الأموال .. وكانت أيضا فرصة للتعرف على أشخاص قريبين كنت تظن أنك تعرفهم ، وأدركت أنك لا تعرفهم عندما تم وضعهم تحت مجهر الانسانية الحقيقي والاحتياج .. بينما ارتفعت اقدار أشخاص كنت تجهل عنهم أنهم يملكون كل هذا الحب والخير .. فسقط عنا أشخاص ، وارتفع آخرون ..
الشدائد هي الاختبار الحقيقي لمعادن الناس .. لأكتشاف منابع الخير فيهم.  والصبر والحكمة ، وكيفية التعامل مع نوازل الحياة المفاجئة التي لم نستعد لها .. وفرصة للتأمل واستدراك النعم التي فقدناها وكنا  نتعامل معها كمسلّمات لم نتوقع فقدها يوما .. وهذه من أكبر امتحانات الحرب ..
رافق النزوح كثير من المشاكل ، أكبرها  فقدان مصادر الدخل ، وكيفية التأقلم في مناطق النزوح ، خاصة في المناطق التي لم تطأها اقدام النازح قبلا ولا يملك فيها معارف أو أهل وأصدقاء ،  وتعلم كيفية التأقلم مع الأقارب  في بيوت اصبحت تسع أكثر من طاقتها .. وخاصة بعد أن اتضح أن أمد الحرب اصبح غير معلوم ، فتحول صبر الانتظار إلى ضجر ، وبعض الضيوف أصبح غير مرغوب فيهم ..
كثير من المشاكل التي أحدثها النزوح بسبب الاقامة  في بيوت مشتركة كان سببها افتقاد الحدود والخصوصية ، والارهاق المادي مع فقدان الوظائف والاموال واختلاف الطباع والامزجة ، أو حتى صعوبة التأقلم مع حياة جديدة كان من الصعب التكيف معها ..
رغم احتفاء الكثيرين بضيوفهم من مناطق النزوح في بداية الحرب ، ولكن مع طول الوقت اصبح يمثل عبء على البعض ، أما لأسباب مادية ، أو للرهق الذي اصابهم من خدمتهم ، أو حتى بسبب مشاكل الضيوف أنفسهم أو طباعهم ..
الاقامة كضيف ، زائر ، أو نازح .. ينبغي معرفة الحدود فيها ، وأهم ما فيها الحرص على خصوصية أهل البيت ..فهذا ليس بيتك حتى لو كان بيت أخوك ، أختك،  زوج ابنتك ، زوجة ابنك ..  خالك ، عمك ، صديقك ..الخ ..  كل هذه البيوت التي استقبلتك بود ومحبة يفترض أن تراعي خصوصيتها وتقيم فيها كفرد يراعي الحدود ولا يسبب الضيق ، تشارك أهل البيت كأنك واحد منهم اذا استطعت ماديا وخدميا ، تضيف اليهم ولا تأخذ منهم ، لا تفشي لهم سرا ، ولا تهتك لهم عرضا  ،  .. تذكر الجميل وتستر القبيح ..وتغض الطرف عن ما لا يعنيك..

الحرب التي شتت وفرّقت وأبعدت الأحباب والعائلات عن بعضهم  لا تحتاج حروب أخرى يسببها التواجد في بيت واحد ، متى أدركنا الحدود وحرصنا على الخصوصيات حتى لو في مساحات ضيقة ، وراعينا لمشاعر بعضنا وتحملنا اختلافنا ، فهي أيام ستنتهي مهما طالت ، وستبقى فيها ذكرى الجميل والقبيح ، ومن فتح أبوابه لنا ، ومن أغلقها دوننا ..
تواجدك في بيت ابنك المتزوج أو بيت ابنتك المتزوجة أو أي أشكال القرابات ينبغي أن تحرص فيها على البناء لا الهدم مهما واجهك من صدام ومشكلات ، واختلافات ،  وكما قلنا قبلا متى التزمنا الحدود وتركنا ما لا يعيننا ، وتحملنا بعضنا بعضا ، فسنعيش هذه المرحلة في سلام ..
وجود والدي زوجك أو زوجتك معك ، أو ايا من أشكال القرابات ، هو وجود مؤقت أضطروا اليه ، فينبغي فيه تقديم كل ما يُستطاع من الود والاحترام  وغض الطرف عما يُكره ، فكل خير مردود الينا مضاعفا .. والأفضل لمن استطاع تأجير سكن منفرد لكليهما ، ابقاء للود وحفاظا على الخصوصية ..
الحرب قد تطول لسنين قادمة والاعتماد الكامل على انفاف الاقارب ينبغي أن ينظر اليه بصورة مختلفة ، فهو قد لا يستمر بتغير أحوال المُنفق ، فالبحث عن مصادر دخل هو من أهم الضروريات في الوقت الحالي .. أي دخل مهما كان قليل فهو يساعد في توفيق بعض الأوضاع ، والتفكير في الغد بصورة ايجابية ..
لا أحد يعلم متى ستنتهي هذه الحرب ، وبالنسبة للنازحين من العقل ترتيب أمور حياتهم بناء على ما يحدث الآن ، حسب ما يتوفر في أماكن نزوحهم ، إما البقاء مكتوفي الأيادي في أنتظار نهايتها فيه نوع من الهطل ..
للنزوح قصص وحكايات ومشاكل لا يمكن حصرها في مقال واحد .. وسنعاود الكتابة عنها في مقالات أخرى باذن الله  ..

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى