همس الخواطر / د.فاطمة عبدالله : سودان ما بعد الحرب ينبغي أن يكون مختلفا ..
همس الخواطر : فاطمة عبدالله
أرهقتنا هذه الحرب ، وكلنا نريد أن نرى نهايتها اليوم قبل الغد ، وكلنا نتمنى أن تكون هذه الحرب قد أحدثت تغييرا يجعلنا ننظر للأمور بصورة مختلفة تعالج بصورة جذرية عدم حدوث مثل هذه الكوارث مرة أخرى ، فلا كارثة مرت بتاريخنا أسوأ من حرب 15 أبريل ، وهو تاريخ لن ينساه أي مواطن سوداني ..
لأجل سودان مختلف لما بعد الحرب فينا حاجات لازم تتغير .. قد تبدو عند البعض غير ذات أهمية ، ولكنها مهمة لأنها تعكس جوانب الوعي فينا .. وحرصنا على بناء دولة ووطن معافى ..يعاني كثير من المشاكل ، لم تتحل ، ولم تغيير ، بسبب عدم تغير السلوك الذي أساسه عدم امتلاك الوعي المطلوب لاحداث التغيير .. والحاجات دي في تقديري هي سبب أساسي أننا في رحلة انحدار مستمر ..
بعد كل هذه المعاناة التي عاشها الشعب السوداني جراء هذه الحرب المشؤومة ، اصبح التغيير مطلب ملح ، يحول دون تكرار أخطاء الماضي المتكرر والمتجدد بصورة نمطية مهما اختلفت المسميات والأنظمة الحاكمة ..
بعد حرب 15ابريل وما ترتب عليه من نزوح ملاييني الى ولايات ومدن السودان الآمنة ، أو خارج السودان .. وهو نزوح لم يكن بالأجساد فقط ، بل بكل ما يمثلهم كأشخاص يعكسون بئات مختلفة .. وبما هم عليه حقيقة .. بالداخل أو الخارج .. فأنت تنزح بفكرك ، وطبيعتك ، وعاداتك .. ومفاهيمك .
النزوح الى خارج السودان كان خيارا لمن استطاع اليه سبيلا ، وهو نزوح كبير يزيد عن 2 مليون نازح ، وأغلبها إلى دول الجوار أو منطقة الخليج العربي .. وشيء معلوم أن الأقامة في هذه البلدان تعرّف عنا كسودانيين ، تعكس فيها صفاتك وأخلاقك واحترامك لقوانين بلدان آوتك .. وتمثل فيها بلدك خير تمثيل .. أو اسوأ تمثيل ..
بعض هؤلاء النازحون لم يسبق لهم الخروج من السودان .. وتجاربهم الحياتية قليلة ، وعليه رغم انهم لاحظوا اختلاف البلدان التي استقروا فيها ، وطبيعة قوانينها، ونظافة المدن وشوارعها واحيائها ، الا انه أبوا الا يعيشوا الا كما عاشوا في السودان ، ومن بعض تصرفاتهم مثلا أنهم يرموا أكياس الزبالة في الشارع وحاويات القمامة على بعد أمتار قليلة منهم ، ويحدث ذلك في بلدان تعاقب على رمي اعقاب السجاير في الشارع .. ولا ترى في شوارعها ورقة تطير ..
ولكن يلاحظ رغم أنه انتقل الى بيئة مختلفة ، وسلوك مختلف ، الا أنه ظل مصرا على ممارسة نفس صورة السلوك الخاطيء المتعود عليه .. وهذا يبيّن أهمية تغيير الانسان في ذاته أولا ، لأن تغيير الأمكنة لن يفيد في تغيير السلوك ، وانما الوعي هو الذي يُحدث فرقا ..
ذكرت هذا المثال لأقول أن السلوك له صلة مباشرة بالوعي .. فالمواطن الذي يهتم أن لا يرمي قمامته في الشارع ، هو مواطن مهتم بنظافة مدينته أو قريته ، هو مواطن يساهم بالبناء ، هو مواطن مسؤول يشارك في عمل ايجابي .. وبالمقابل فهو يحرص أن يعكس صورة ايجابية عنه كمواطن يمثل بلده في غير بلده .. وهذا مثال من أمثلة كثيرة يمثل غياب الوعي فيها مشاكل كارثية ..
طالما ركزنا على تغيير الأنظمة بالثورات والانقلابات ، وغفلنا عن التغيير المجتمعي والمؤسسي المؤهل لاحداث تغيير حقيقي يساعد في التغيير النافع المطلوب ، فذهاب الأنظمة الحاكمة دون تغيير الوعي الذي يساهم في ادارة مؤسسات الحكم والدولة فهو تغيير للصورة دون الأصل .. لذا لم يكن مستغربا أن شبابنا الثوار في ذلك الوقت بعد سقوط الانقاذ ، لم يدركوا أنهم عندما يغلقون الشوارع عن المارة ، ويعطلون حياة المواطن ويزيلون الانترلوك عن الشوارع للتتريس ، ويزيلون أعمدة الأنارة ، لم يدركوا أنهم بهذا التصرف يهدمون ولا يبنون ..
وهذه العقلية هي التي تحتاج بناء وتغيير مفاهيم لتعرف معنى البناء الحقيقي ..
بعد الثورة ورفع شعار حنبنيهو .. كتبت حينها أنه يجب استغلال هذه الطاقة العظيمة لملايين الشباب بمليونات تحقق هذا الشعار ، أولها مليونية لنظافة الخرطوم ، ومليونيات البناء والتعمير بزراعة آلاف الأفندة بسواعد هؤلاء الشباب ، الذين كانوا عصب التغيير الحقيقي وأكثر فئة تم اهمالها بعد الثورة ..
ولأن الوعي التغييري المختلف عن سابقه لم يتواجد حتى هذه اللحظة لذا لم يتغير الأمر حتى بعد انشاء لجان المقاومة ، التي كانت بنفس الصورة النمطية للأنظمة المختلفة السابقة التي تسعى لتحقيق المآرب المختلفة تبعا للأيدولوجيات وليس بخدمة المواطن في المقام الأول ،
فكان ادؤاها لا يختلف عن أداء اللجان الشعبية في عهد الانقاذ .. نفس اسلوب التمكين والمحاباة ، فتغير الاسم والاشخاص وغابت عقلية الوعي التي هي أساس التغيير الحقيقي ..
ذكرت هذا لأوصل فهم أن تغيير الأنظمة اذا لم يرافقه تغيير في العقليات ، ويرافقه تغيير مؤسسي ومجتمعي مختلف عن السابق الذي ثرنا عليه ، فلن نحصل الا على نفس النتائج ، وتجريب المجرب حصيلته معروفة ..
بعد نهاية هذه الحرب الكارثية ، وحتى نعيد بناء وطن مختلف ، لن يتم ذلك الا اذا تغيرت عندنا المفاهيم ، وامتلكنا هذه البصيرة الملهمة التي تعي أن الوطن ومؤسسات الدولة وبنياتها التحتية هي ملك لأي مواطن سوداني ولا علاقة لذلك بالايدولوجيات والأحزاب ، فعندما تسعى لتخريبها ، فأنت تخرّب ما هو ملكك ..
سودان الغد ، سودان ما بعد الحرب نريده مختلفا ، بمواطنه ، وساسته ، ووعيه ، وعقليته ، سودان يسع الجميع بتنوع يبني ولا يهدم .. فيه احترام للكل .. نعمل بما اختلفنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا بما اختلفنا فيه ..
سودان ما بعد الحرب ينبغي أن يكون مختلفا ..