كتاب واراء

مجرد ملاحظة.. نادر عبدالله حلفاوي : حلفا الجديدة…مدينة تنهار بين مطرقة الصراعات وسندان الإهمال

مجرد ملاحظة: نادر عبدالله حلفاوي

كانت حلفا الجديدة، المدينة التي نشأت من رحم التهجير، رمزاً للتخطيط الحضري المتقدم، ومثالاً على قدرة الإنسان السوداني على تحويل الأرض الجرداء إلى واحة زراعية واقتصادية نابضة بالحياة. تأسست على أنقاض تهجير أهالي حلفا القديمة بعد بناء السد العالي، فنهضت بمؤسسة حلفا الزراعية، ومصنع السكر، والمطاحن، وشهدت طفرة عمرانية جعلتها تضاهي مدناً عالمية في تخطيطها وتنظيمها.

لكن هذا المجد لم يدم طويلاً. فاليوم، تعيش حلفا الجديدة حالة من الانهيار الممنهج، وسط صراعات سياسية عقيمة بين التيارات الحزبية ، بينما تتآكل حقوق المواطنين وتُنهب مقدراتهم في وضح النهار.

 * صراعات سياسية بلا طائل

انشغل أبناء المدينة، كباراً وصغاراً، في معارك سياسية لا طائل منها سوى تمزيق النسيج الاجتماعي. انقسم الناس بين مؤيدين للأنظمة السابقة (الكيزان) وداعمين لقوى الثورة (القحاتة) أو غيرهم ، وكل طرف يتهم الآخر بالفساد والتخريب، بينما الحقيقة أن المدينة تدفع الثمن وحدها. الأحزاب التي يتقاتل الناس من أجلها تخلت عنهم، وتركتهم فريسة للفرقة والتشرذم، يستغلها المتنفذون وسماسرة المصالح.

 * انهيار الخدمات الأساسية

في قلب هذه الفوضى، يئن المستشفى الوحيد في المدينة تحت وطأة الإهمال. لا أجهزة، لا أدوية، ولا اهتمام حكومي. المواطنون يُجبرون على اللجوء إلى المستشفيات الخاصة باهظة التكاليف، أو يموتون في الطريق بحثاً عن غرفة إنعاش أو صورة مقطعية. هذا المشهد المأساوي يتكرر يومياً، بينما السياسيون يتصارعون على كراسي لا تجلب إلا الخراب.

 * نهب منظم لموارد المدينة

الفساد لم يتوقف عند حدود الخدمات، بل طال البنية التحتية نفسها. لأول مرة في تاريخ السودان، تباع الشوارع العامة في حلفا الجديدة لصالح أفراد، في صفقات مشبوهة تحت مسمى “البيع المباشر”. الميادين والساحات العامة تُباع وتُقسّم، وسماسرة الأراضي يملكون الكروكيات ويحركون السوق كما يشاؤون، في ظل صمت مريب من السلطات.

حتى والي ولاية كسلا أقر بخطورة سماسرة الاراضي، ويعلم ما يحدث في ملف الاراضي لكن لم يحاسب أحد، ولم تسترد الميادين. المدينة التي كانت تضرب بها الأمثال في التنظيم، أصبحت اليوم بلا طرق مسفلتة، ولا مشاريع تنموية، ولا رؤية مستقبلية.

 * غياب العدالة التنموية

رغم أن حلفا الجديدة ترفد خزينة ولاية كسلا بملايين الجنيهات، إلا أن نصيبها من التنمية يكاد يكون معدوماً. لا مدارس جديدة، لا مراكز صحية، ولا مشاريع بنية تحتية. كل الولاة الذين مرّوا على كسلا، نعموا بخيرات حلفا، وتركوا أهلها في العراء، يتساءلون: ماذا قدمت لنا الحكومة مقابل ما أخذته منا؟

 * مستقبل الشباب في مهب الريح

في ظل هذا الواقع، يطرح السؤال الأهم: أين مستقبل شباب حلفا؟ وأين حقوق الأجيال القادمة من الاراضي سكنية وزراعية ؟ البطالة تتفشى، المخدرات تنتشر في المدينة والقري ، الهجرة الداخلية والخارجية تتزايد، والفرص تتضاءل. لا توجد برامج تدريب، ولا مشاريع تشغيل، ولا حتى أفق سياسي موحد يمكن أن يُلهم الشباب أو يحفزهم للبقاء والنهوض بالمدينة.

 * هل من صحوة قريبة؟

حلفا الجديدة لا تحتاج إلى شعارات حزبية، بل إلى مشروع وطني جامع يعيد لها مكانتها. تحتاج إلى أن يضع أبناؤها خلافاتهم جانباً، ويتوحدوا من أجل إنقاذ ما تبقى. فالصراعات السياسية لا تعمر وطناً، والحقوق لا تُسترد بالصراخ، بل بالعمل الجماعي الواعي.

إن لم يستفق الجميع من غفلتهم، فإن حلفا الجديدة ستتحول من “أرض الحضارات” إلى “أرض الذكريات”، ولن يغفر التاريخ لمن فرط في حاضرها ومستقبلها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى