رؤية خاصة بروفسير/ احمد عبيد حسن يكتب: القطاع الصناعي السوداني: بين الحطام والأمل – حلول عملية لإعادة الإعمار في ظل التحديات”

شهد القطاع الصناعي السوداني تدهورًا غير مسبوق جراء الحرب الدائرة التي عصفت بالبنية التحتية وأثرت على مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. المصانع التي كانت تمثل شريانًا حيويًا للاقتصاد الوطني تعرضت للتدمير والنهب، مما أدى إلى توقف الإنتاج وتشريد آلاف العمال.
الأزمة لا تقف عند هذا الحد، إذ تعرضت البنوك المحلية للنهب والحرق، مما أدى إلى تراجع قدرتها على تقديم التمويل اللازم لإعادة الإعمار. كما أن النزوح الكبير للسكان والصعوبات المعيشية التي يواجها أصحاب المصانع خلقت تحديات إضافية تتعلق بتوفير الموارد اللازمة للبدء من جديد. في ظل هذه العوامل، يجد السودان نفسه في مواجهة عوائق إضافية على المستوى الدولي، حيث تحتل الصراعات في دول أخرى مكانة متقدمة في سلم الأولويات العالمية، فيما يُعتبر النزاع السوداني داخليًا وغير مرئي على الصعيد الدولي.
لم يكن تحرير المناطق الصناعية في الخرطوم بحري وامدرمان والمناطق التي في طريقها للتحرير مجرد نهاية لسيطرة المليشيات، بل كان بداية لمعركة أكثر تحديًا وطولًا: معركة إعادة الإعمار. في ظل الدمار الشامل الذي طال البنية التحتية، وجدران المصانع المدمرة، وسرقة الكوابل والمحولات الكهربائية، حيث وجد الصناعيون أنفسهم أمام اختبار صعب لاستعادة عجلة الإنتاج في غياب او ضعف الدعم الحكومي والصعوبات الاقتصادية الخانقة.
هذه المصانع ليست مجرد منشآت إنتاجية، بل هي حلم أجيال وعائلات استثمرت كل ما لديها في بنائها. واليوم، تبرز الحاجة إلى حلول مبتكرة وإرادة جماعية لإعادة الحياة إلى هذه المنشآت المنهكة، ويواجه أصحاب المصانع تحديات تتجاوز نقص المعدات وتدمير البنية التحتية؛ فالبنوك نفسها التي كانت تمثل شريان تمويلهم أصيبت بالشلل نتيجة النهب والتدمير. ومع فقدان مدخرات كبيرة جراء النزوح وتكاليف المعيشة، أصبح الأمل مرهونًا بخطط خلاقة وجهود تعاونية.
هذا الوضع الكارثي يتطلب حلولًا مبتكرة وسريعة لإعادة بناء القطاع الصناعي واستعادة دوره المحوري في الاقتصاد السوداني. في ظل هذه التحديات، تبرز الحاجة إلى حلول عملية ومستدامة.
في ظل هذه المعطيات، تبقى الحلول محدودة لكنها ليست مستحيلة. يمكن للصناعيين تبني أفكار مبتكرة لتحقيق إعادة الإعمار وإعادة تشغيل المصانع بجهود ذاتية وخارج الصندوق. أولاً، ينبغي التركيز على تشكيل صناديق تمويل مشترك تتيح لأصحاب المصانع تجميع الموارد المالية المتاحة بطريقة تعاونية. هذه الصناديق يمكن أن تُستخدم لإعادة بناء البنية التحتية الأساسية مثل شبكات الكهرباء والمياه داخل المصانع. كما يمكن استكشاف إمكانيات التمويل الجماعي عبر الإنترنت، مستهدفين دعم السودانيين في الخارج والمجتمع الدولي المحب للدعم الإنساني.
يمكن للصناعيين تبني فكرة صناديق التمويل المشترك كوسيلة لتوفير رأس المال اللازم للبدء من جديد. وتُدار عبر لجنة مختصة تمثل جميع الأطراف المتضررة وتعتمد هذه الصناديق على مساهمات رمزية من أصحاب المصانع، تُضاف إليها استثمارات من رجال الأعمال السودانيين في المهجر والمنظمات الدولية. الدور الأساسي لهذه اللجنة هو ضمان إدارة شفافة وعادلة للأموال، بما يشمل تحديد أولويات إعادة الإعمار مثل شراء المحولات الكهربائية أو إصلاح شبكات المياه، بالإضافة إلى تمويل المشروعات الصغيرة التي تولد عوائد فورية.
بجانب ذلك، يمكن التوسع في فكرة التمويل الجماعي عبر الإنترنت، حيث تعرض المصانع مشاريعها لجذب استثمارات من أفراد المجتمع داخل وخارج السودان.
توليد الكهرباء يمثل التحدي الأكبر؛ وهنا تبرز الحاجة إلى حلول مبتكرة مثل إقامة تحالف صناعي لاستيراد معدات كهربائية مستعملة من الدول القريبة بتكاليف أقل. يمكن لكل مصنع التفكير في تركيب ألواح شمسية محدودة لتشغيل الأنظمة الحيوية، أو التعاون مع شركات طاقة خاصة لإنشاء وحدات إنتاج كهرباء تعمل بالدفع المسبق. في هذه الظروف، التفكير في الطاقة المستدامة ليس رفاهية، بل ضرورة لضمان استمرارية الإنتاج على المدى الطويل.
يمكن للصناعيين التوجه نحو الطاقة البديلة كحل عملي لتعويض نقص الكهرباء. تركيب محطات طاقة شمسية صغيرة يمكن أن يكون استثمارًا مستدامًا يتيح للمصانع استئناف جزء من عملياتها تدريجيًا. كما يمكن التنسيق مع شركات طاقة خاصة لتوفير حلول مؤقتة مثل مولدات الكهرباء بنظام التأجير الجماعي، مما يخفف الضغط عن الموارد المحدودة.
على المستوى الإنتاجي، يمكن إعادة تشغيل المصانع تدريجيًا مع التركيز على المنتجات الأساسية المطلوبة محليًا، مثل السلع الغذائية. هذا النهج يضمن تدفقات نقدية سريعة تدعم إعادة البناء التدريجية. علاوة على ذلك، يمكن تعزيز الشراكات بين المصانع المحلية لتقاسم الموارد وتقليل التكاليف.
على المستوى المؤسساتي، يجب أن تكون وزارتي الصناعة والتجارة هي الجهة المرجعية، مع استحداث هيئة وطنية لإعادة تأهيل الصناعات المتضررة. تضم الهيئة ممثلين من الحكومة، الغرف الصناعية، وخبراء اقتصاديين وقانونيين. دورها لن يقتصر على الإشراف، بل سيمتد إلى تقديم الدعم الفني والتفاوض مع المنظمات الدولية لاستقطاب المنح أو القروض طويلة الأمد.
ولأن السودان ليس البلد الوحيد الذي يواجه مثل هذه التحديات، يمكن الاستفادة من تجارب دول أخرى مرت بظروف مشابهة. على سبيل المثال، تجربة العراق بعد الغزو الأمريكي تُظهر كيف يمكن لتشكيل صناديق تمويل مشترك أن يدعم المصانع المتضررة. كذلك، تُقدم رواندا نموذجًا ملهمًا من خلال تبني شراكات بين الشركات الصغيرة، مما ساعد في إعادة تشغيل القطاع الصناعي.
نجد أن رؤية العراق في إعادة تشغيل مصانعه بعد الحرب ارتكزت على الدعم المالي المشترك بين الصناعيين والجهات المانحة، بينما نجحت رواندا في بناء شراكات دولية لدعم الصناعات الصغيرة كمحرك اقتصادي أساسي. يمكن للقطاع الصناعي أن يستلهم من هذه التجارب ويكيفها بما يناسب طبيعته الاقتصادية والاجتماعية.
إعادة بناء القطاع الصناعي السوداني ليست مجرد تحدٍ تقني أو اقتصادي، بل هي اختبار للإرادة الجماعية وقدرة المجتمع على النهوض من تحت الرماد. أصحاب المصانع يمكنهم أن يكونوا رأس الحربة في هذه المهمة، مستعينين بالإبداع والتعاون، ليثبتوا أن الحلم السوداني قادر على تجاوز المحن مهما تعاظمت.
ويعتمد النجاح في إعادة بناء القطاع الصناعي السوداني على إنشاء إطار عمل تشاركي يجمع بين الصناعيين، الحكومة، والمجتمع الدولي. البداية يجب أن تنطلق من إستراتيجية محلية مستدامة تشمل العناصر التالية:
إنشاء صندوق تمويل مشترك وطني: هذا الصندوق لن يكون فقط آلية لجمع الموارد المالية، ولكن أيضًا وسيلة لتعزيز الثقة بين الأطراف المتضررة. يمكن أن يدار الصندوق بواسطة مجلس من الصناعيين وأصحاب الخبرة الاقتصادية، بدعم من الحكومة والمنظمات الدولية. يُخصص الصندوق لتمويل:
1. شراء المعدات الأساسية وإصلاح البنية التحتية، مثل الكهرباء والمياه.
2. تقديم قروض ميسّرة للمصانع الأكثر تضررًا.
3. تمويل مشروعات مشتركة بين الصناعيين لتقليل التكاليف التشغيلية.
منظومة دعم الطاقة البديلة:
1. التحالف الصناعي لاستيراد محولات ومعدات كهربائية مستعملةعبر التفاوض الجماعي مع شركات خارجية لتوفير معدات كهرباء بكلفة أقل.
2. الاعتماد على الطاقة الشمسية كمصدر مستدام للطاقة، بدءًا من تركيب ألواح شمسية على أسطح المصانع.
3. إنشاء محطات طاقة صغيرة بالتعاون مع القطاع الخاص ليُتيح للمصانع العمل بشكل مستقل عن الشبكة الوطنية المتضررة.
شراكات التعاونية:
1. يمكن لمجموعة مصانع ذات اختصاصات متشابهة أو مكملة أن تتشارك الموارد والمعدات لإنتاج منتجات مشتركة.
2. المصانع الأقل تضررًا يمكن أن تستخدم كمرافق إنتاجية مشتركة تُستأجر بالتناوب.
تطوير نموذج اقتصادي بديل للتمويل:
1. يمكن لأصحاب المصانع إطلاق حملات عبر منصات التمويل الجماعي على الإنترنت لجذب دعم السودانيين في المهجر وأيضًا المجتمعات المحلية والدولية.
2. إطلاق سندات صناعية محلية تتيح للأفراد والمستثمرين المساهمة في إعادة بناء المصانع مقابل أرباح مستقبلية.
تطبيق مثل هذه الإستراتيجيات يعني أن الصناعيين في السودان سيكون لديهم خارطة طريق واضحة، وقابلة للتنفيذ رغم التعقيدات. الأمر يتطلب قيادة جريئة، شراكات متينة، وعقلية تتجاوز الاعتماد على الحلول التقليدية.
في النهاية، يكمن الأمل في قدرة الصناعيين السودانيين على التكاتف والإبداع لمواجهة هذا التحدي الكبير. على الرغم من ضعف الدعم الحكومي والمحددات الدولية، يبقى الرهان على المبادرات الذاتية وحسن استغلال الموارد المتاحة لإعادة النهوض بهذا القطاع الحيوي.