رؤية خاصة 3 بروفسير/ احمد عبيد حسن يكتب: الشراكة والتآزر الصناعي ( (industrial synergy: فرصة للنهوض أم مغامرة غير محسوبة؟

في نقاش عابر بين مجموعة من الصناعيين السودانيين، طرح أحدهم فكرة قد تبدو للبعض مثالية أو حتى بعيدة المنال: لماذا لا تتحد المصانع المتضررة من الحرب في شراكات صناعية تعيدها للإنتاج بدلًا من انتظار حلول فردية قد لا تأتي أبدًا؟ الفكرة لم تجد تفاعلًا كافيًا وقتها، ليس بسبب عدم جدواها، ولكن لأن أصحاب المصانع كانوا منشغلين بأمور أكثر إلحاحًا، مثل تأمين ممتلكاتهم أو البحث عن تمويل سريع لإنقاذ ما تبقى من أعمالهم. لكن اليوم، ومع بدء استقرار الأوضاع، ربما حان الوقت لإعادة النظر بجدية في هذه الفكرة.
القطاع الصناعي في السودان يتميز بأنه قائم بشكل كبير على الملكيات العائلية، حيث تنتقل المصانع من جيل إلى آخر، وتُدار بطرق تقليدية تحافظ على الاستقلالية المطلقة. هذه الخصوصية تجعل فكرة الاندماج أو حتى الشراكة تبدو غريبة على كثير من الصناعيين، إذ تعني بالنسبة للبعض فقدان السيطرة أو الدخول في تعقيدات إدارية غير مألوفة.
هذه المخاوف مشروعة، لكنها ليست عقبة لا يمكن تجاوزها. العالم مليء بنماذج ناجحة لعمليات اندماج لم تؤدِّ إلى فقدان الهوية، بل جعلت الشركات أقوى وأكثر قدرة على المنافسة. في تركيا، على سبيل المثال، شهد القطاع الصناعي تطورًا كبيرًا بعد تبني مفهوم “التكتلات الصناعية”، حيث تعمل المصانع بشكل مستقل لكنها تتشارك في الموارد والخدمات اللوجستية، مما أدى إلى تعزيز الإنتاجية وخفض التكاليف.
الشراكة لا تعني أن تفقد المصانع هويتها أو أن تذوب في كيان جديد لا ملامح له. بل يمكن أن تكون هذه الشراكات مرنة، بحيث يحافظ كل مصنع على استقلاليته التشغيلية، بينما يتعاون مع غيره في مجالات محددة تساهم في تقليل التكاليف ورفع الإنتاجية. فبدلًا من أن يعمل كل مصنع بمفرده على استيراد المواد الخام، يمكن لمجموعة مصانع تعمل في نفس المجال أن تتشارك في شراء المواد بكميات كبيرة، مما يقلل من التكلفة. وبدلًا من أن ينفق كل مصنع على صيانة معداته بشكل فردي، يمكن أن تُنشأ ورش صيانة مشتركة تخدم الجميع بكفاءة أعلى. وبدلا من ان تجوب المدن مئات من عربات التوزيع يمكن ان تتم شراكات في مجال ترحيل وتوزيع السلع وبالتالي خفض التكاليف، كذلك، يمكن للمصانع أن توحد جهودها التسويقية، فتخلق علامة تجارية أقوى بدلًا من أن تنافس بعضها البعض في سوق محدود.
في دول عديدة كما اسلفنا، كان الاندماج الصناعي مفتاحًا للنمو بعد الأزمات. في تركيا، مثلًا، لم يكن التطور الصناعي مجرد نتيجة لرأس المال، بل لأن المصانع الصغيرة والمتوسطة بدأت في العمل كمجموعات متكاملة بدلًا من كيانات منفصلة. كل مصنع حافظ على هويته، لكنه أصبح جزءًا من شبكة صناعية تتشارك الموارد والخبرات والأسواق.
ما الذي يمنع المصانع السودانية من فعل الشيء نفسه؟ قد تكون المخاوف من فقدان السيطرة أو التعقيدات القانونية أحد الأسباب، لكن هذه العقبات ليست مستحيلة التجاوز. يمكن تصميم نماذج شراكة تحافظ على استقلالية المصانع، بحيث يظل لكل مصنع إدارته الخاصة، لكنه يستفيد من التكامل مع المصانع الأخرى في مجالات محددة. كما أن هناك حلولًا تمويلية يمكن أن تدعم هذا الاتجاه، تقوم على نظام تقاسم العوائد دون أن تُفرض على المصانع التزامات مالية ثقيلة.
ما بين التحديات والفرص، يبقى الاندماج والشراكات أحد الحلول القليلة القادرة على إعادة الصناعة السودانية إلى مسارها الصحيح. صحيح أن الفكرة ليست سهلة التنفيذ، لكنها أيضًا ليست مستحيلة. النجاح يعتمد على مدى استعداد الصناعيين لتبني طرق تفكير جديدة، وإدراك أن المستقبل ليس في التنافس غير المنتج، بل في التعاون الذكي الذي يضمن للجميع البقاء والنمو.
هذه المخاوف مشروعة، لكنها ليست عقبة لا يمكن تجاوزها. العالم مليء بنماذج ناجحة لعمليات اندماج لم تؤدِّ إلى فقدان الهوية، بل جعلت الشركات أقوى وأكثر قدرة على المنافسة. إذا كانت المصانع تمكنت من الصمود خلال الحرب، فلماذا لا تستطيع تجاوز آثارها من خلال التعاون؟ ربما تكون هذه هي اللحظة المناسبة لتغيير قواعد اللعبة، وبدلًا من أن يعمل كل مصنع بمفرده في عزلة، يمكن أن تكون الشراكة هي المفتاح لبناء مستقبل صناعي أقوى وأكثر استدامة.
في النهاية، قد يبدو خيار الشراكة مغامرة للبعض، لكنه في الحقيقة قد يكون طوق نجاة للصناعة السودانية. استمرار المصانع في العمل بمعزل عن بعضها لن يؤدي إلا إلى المزيد من الخسائر، بينما يمكن للتعاون الذكي أن يخلق فرصًا جديدة ويعيد القطاع الصناعي إلى مساره الصحيح. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل لدى الصناعيين السودانيين الجرأة الكافية لأخذ هذه الخطوة ؟ أم سيظلون عالقين في النموذج القديم.؟