منوعات
أخر الأخبار

الهادي السيد عثمان يكتب : السريحة الجريحة والشهادة المريحة

                                                                     

 

 

إنها القرية التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، حامدة شاكرة لأنعم الله، عائذةً بإيمانها، مستعصمةً برباط الولاء والمحنة، محترزة بأريحية معتدة، تحزم أهلها عقدة النسب، يذهب بأصالة عِرقِهم وشرف أرومتهم، ونبل كرمهم أدناهم، إنهم قوم يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع، يد واحدة على من سواهم، يتنافرون لما يعتريهم من سوء، إلا ما جرت به سنة الله في عباده من اصابات يصيب بها من يشاكها كقرصة الأذن. عتاباًوعقاباً وتكفيرا. قرية في مقام أم القرى بالنسبة لما حولها من القرى منذ عهد المستعمر البريطاني، الذي كان يختار من تلك القرى ما يكون نموذجاً إدارياً وتجارياً أو مركزا من مراكز الحكم، فكان حظها من البنيات التحتية والخدمات الاجتماعية ما جعلها نَموذجاَ إدارياً، وقبلة لتعليم الناشئة، وطالبي العمل، وظلت على ذلك ردحاً من الزمن حتى بعد جلاء المستعمر، ثم توقف الدعم مع تقدم الزمن، إلا أن أبناءها وساكنيها لم يألوا جهدا ولا يدخرون من وسْعهم في تطورها ونمائها لمواكبة التمدد العمراني والكثافة السكانية، ولمتطلبات القِبلية التي تقلدتها منذ القدم.

 إلى أن غشيها ما غشي الجزيرة كلها، بل السودان كله؛ من هذا الذي عم القرى والحضر ، فزع وخوف وإزهاق للارواح وإهلاك للأخضر واليابس؛ على يد التتار الجدد الذين يشبهون البشر مظهرا ويلتحقون بالوحوش مخبرا، الذين علوا في الأرض علوا كبيرا وأكثروا فيها الفساد، فما من قرية ولامدينة، بل ما من متحرك ولا جامد إلا وقد مسه الضر والعذاب، قصص مروعة، ومشاهد مفزعة، لا يقدر عليها إلا صانعوا الأفلام الخيالية، أو اليهود – وأولئك منهم – القتلة الذين لا يرعون لمؤمن إلاً ولاذمة، كما نشاهده اليوم من حصد لأرواح الفلسطينيين من أهل غزة الصابرين المرابطين، نصرهم الله. 

وفي هذا المقال لا أريد أن أطلع القارئ على ما لم يشاهده ولم يسمعه من عجائب تلك الأفعال والأعمال فهو به عليم، ولا أريد أن أقص عليه ما حكي عنها من قبل في مقالات نشرت أخر، لئلا يضيق صدره أو يسأم، ولكني أستميحه عذرا. و في عجالة أن أأرخ وأوثق لأمر سوف يفخر به أجيالهم فيما بعد، ولأشير من خلاله على الصمود ، وإن جئت متأخرا، وما تأخيري إلا لعظم الفاجعة، التي عقدت اللسان فلم ينبس، وأُرتِجَ على القلم فخَرِس.

دخل هؤلاء الأوباش قرية (أزرق) التي لا يفصلها عن السريحة إلا مجرى مائيٌ ( ترعة) وكأنهما حيان لبلدة واحدة، فإذا ارتفع صوت في أي من الحيين سمعه أهل الحي الآخر، فالأرض واحدة، والبيت واحد، وبين القريتين جيرة حسنة. 

هجم المرتزقة على أزرق تمهيدا لدخولهم السريحة كذلك. كمحلية فسمع أهل السريحة طلقات الرصاص يدوي في سمائها؛ ففزعوا لها؛ وقد كانوا على حذر.بما يجري بالبلادلهجماتهم وبذلك قد أعدوا عدتهم، وما ترددوا أن التحموا مع إخوانهم من فرسان أهل أزرق؛ فتفاجأ هؤلاء الأوباش بما لم يحتسبوا، كيف يتجرأ هؤلاء على الوقوف أمام سطوتهم؛ وقد جالوا في الجزيرة قرية قرية ولم يتصدّ لهم حينها أحد، إلا قرية التكينة التي نالت شرف الصمود كذلك من بعدهم وكلهم رحم وتلد الأحياء صغارا يشبهونها ….وقد ظلوا ينهبون ويقتلون ويغتصبون في جرأة فاجرة، فرأوا منهم صلابة وعزم أجبرهم على الفرار بعد أن نال ابطال القريتين منهم نيلاً، وأثخنوهم بما أتيح لهم من سلاح، فأحرقوا عرباتهم، وقتلوا منهم عددا لم يحصل لهم من قبل، كما استشهد من رجال القريتين رجالا سطروا انبل ما يسطره التاريخ لهم، وردوهم على أعقابهم، وكانت بالنسبة لهم هزيمة بلغاء، ملأت صدور قادتهم وأفاعيهم، حقداً وضغناً، اخفوه بمكرهم. لانتقامهم فما لبثوا إلا وان عادوا بعتاد أكبر ونفير أكثر، لينتقموا، ويثأروا لموتاهم، ويجدوا بغيتهم.    

جاء شارونهم، وقد حشر فنادى، وحشد لهم ماحشده فرعون لبني إسرائيل، وقد كان ابطال السريحةعلى يقين بأن هؤلاء الأوغاد لن يمرروها لهم، وأنهم قادمون في أية لحظة، فأجمعوا أمرهم وباتوا في حذر وتوثب، وعقدوا العزم على مواجهتهم مرة أخرى بما توفر لهم من سلاح ناري وسلاح أبيض وحجارة ، ولكن لم يدر في فكرهم أن يأتوا بهذا الجيش الجرار وكأنهم يلاقون جيشاً آخر عدداً وعدة، وبدأ الأوغاد التدوين عن بُعد، فقتلوا من قتلوا، ثم التقى الجمعان، في مواجهة غير متكافئة لا عدة ولا قيادة ولا خطة، ولكنهم قابلوها بالعزيمة والتوكل، والدفاع عن الأرض والعرض، فأعمل الشياطين آلة حصادهم. وهي بمئات التاتشرات ومئات المواتر في أجساد الضعفاء بعدم اسلحتهم امامهم الا ببضعة آليات لا تصد عنهم مدفعاً ولا ترد عنهم غائلة، الا انهم تصدوا لهم في تلاحم وشجاعة نادرة، بصدور عارية مقبلين غير مدبرين؛ وقد تعاهدوا على الموت، و(دقوا بينهم عطر منشم)، ولما تعالى النهار نفد ماعند الأبطال من ذخيرة احسها العدو ولم يجد الشباب في ايديهم الا السلاح الأبيض في مواجهة اسلحتهم الحديثة وكأن التاريخ يعيد حينها نفسه مذكراً بمعركة كرري، التي واجه فيها الأنصار مدافع وبنادق الإنجليز بالسكاكين والحراب، ولكم أن تتخيلوا معي النتيجة، وفي هذا الظرف العصيب استطاعت وببسالة ونخوة فئة من رجال القرية أن يُخرجوا نساءهم خارج القرية تحت وطأة النيران، وذلك ما هو أغلى مايدافعون عنه ويواجهون الموت من أجله، وكان الأمر المحتوم، فقد اقتحمت الكلاب القرية واستباحوها استباحة التتار لبغداد، و بنشوة الغالب المنتشي بغلبته، المتعطش لسفك دماء مغلوبه، فقتلوا كل من وقعت عينهم عليه، شيباً وشباباً، حتى بلغ حصادُ آلتهم أربعمائة واثني عشر قتيلاً، ارتوت الأرض الطاهرة بدمائهم، وتناثرت جثثهم في الطرقات، وكانت مقتلة لم تشهد قرى الجزيرة مثلها إلا قليلا،وباقل من قتلاهم أو لم يكن مثلها، وقد اضطر من كان حياً أن يخرج منها طريدا شريدا مريضا جائعا نائحاً على مافقد من اعزاء يسيرون على غير هدى، تحت جنح الظلام لا يدرون إلى أين يتجهون، فمنهم من مات في الطريق من تعب السير ومن كان مريضا لعدم العلاج، ومنهم من مات بعد أن أنهكت قواه رغم بلوغ مأمنه. 

واقتاد الشارونيون منهم أسرى في ذلة ومهانة شهدها كل أهل السودان!! نقلتها عدسات تصويرهم تلذذاً واستكباراً، تمثلت في استهجان شارونهم وهو يمسك بلحية رجل طاعن في السن، سيماه وتقواه على وجهه. مشهدٌ ما رآه من رآه إلا لعن هذا المارق الفاسد المتجبر الخؤون، عليه من الله مايستحق. 

 استاقوا الأسرى من مختلف الأعمار بمايربو على المائة والخمسين، ساموهم ألواناً من العذاب وصنوفاً من العقاب، وما نقموا منهم إلا أن يتجرأوا على منازلتهم، وما نالوه منهم. 

ابقوا معهم جزءاً في (كاب الجداد) معسكرهم، يسومونهم سوء العذاب ويأمرونهم أن يتشبهوا بالحيوان (قول باع)، وقد رفض بعضهم أن يقولها ولسان حاله ينشد: قول عنترة

لا تسقني كأس الحياة بذلة.. بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ 

كأس الحياة بذلة كجهنم.. وجهنمُ بالعز أطيب منزلِ

فكان جزاؤه الموت،. 

ثم نقلوا خمسين من الأسرى إلى الخرطوم منهم الجريح والمريض،ومن بينهم اطفال وأذاقوهم كذلك ما لم يذقه إخوانهم، فمات من مات وبقي واحد وأربعون طلبوا لفك أسرهم مائتي وخمسة مليارات!! وهل تركوا لأهل الأسرى ما يفدونهم به وحدهم؟ لولا أبناء القرية المغتربين فقد تولوا دفعها، زيادة على ما كانوا يرسلونه لأهل القرية من عمران سابق ومن مصاريف لنقلهم وترحيلهم وإعاشتهم.وعلاجاتهم

تُركت الجثث على حالها في الطرقات وكذلك يفعلون في كل مكان يمارسون فيه القتل، فليس للميت عندهم قدسية ولا كرامة، ولأنهم لم يسمعوا قط قول الله تعالى( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر..ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). فارخص ماعندهم روح الإنسان وأهون شيء عليهم القتل. 

تحللت الجثث وأصبحت عظاماً و رفاتاً لا يعرف حتي اسماء الكثيرين من أصحابها، ولم تدفن إلا بعد ايام طوال بعودةبعض أهل القرية، دفنت في مكان مبارك أنبت الله عليه نبات الريحان ذي الرائحة الطيبة، و لم يعرف أهل القرية لهذا النبات من قبل وجودا. وكأن الله تعالى يبشر بأن هؤلاء في روحٍ وريحانٍ وجنة نعيم يوم القيامة؛ بما نالوا من الشهادة والكرامة.

وإلى كتابة هذه الأسطر هناك مفقودون لم يعرف لهم مصير بعد ان وصل عدد الشهداء لاحقا الي الخمسمائة ، أما الذين أصبحوا ممن فقدو اعضاءهم من اجسامهم والمقعدين؛ فحدث ولا حرج.

أهلي وعزوتي أهل السريحة لقد سطرتم في صفحات التاريخ يوما سيظل أبد الدهر، فخرا للوطن وخلدتم ذكراً تحمله الأجيال من أبنائكم وابناء الوطن كله وحين تذكر بطولات موقعة الكرامة فيحكى عن بطولاتها وما أصابكم من جرح ولم يكن ليخطئكم قد أصبتم القوم مثله، بل مثلين بفضل الله كمافعل جنود جيشنا البواسل الذين اقتلعوا جذورهم من هذا البلد، وجعلوهم عبرة لمن خلفهم ولكل من تراوده نفسه أن يحتل أرض السودان أو يستذل أهله. أو يطمع في موارده وحدوده. 

ولو علمتم ما ادخره الله لكم من الأجر لتمنيتم أن تعودوا لمثل ما تعرضتم له بمقياس الشوكة يشاكها المؤمن.

فاحتسبوا.. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى