سجال ودي مع نقاد رواية “إعدام جوزيف ” مرآة لأزمات السودان ومادة لسجال لا ينتهي (٣/ ٥) . بقلم الصادق علي حسن

دولة الأمير :
حتى بعد أن تطورت المعرفة ووسائل البحث العلمي التقني وصارت المعلومات مبذولة للكافة ويمكن الحصول عليها والتدقيق فيها ولا يحتاج ذلك على كثير جهد فهي متوافرة في الجوال الذي يحمله الشخص العادي في حله وترحاله ، ولكن لا زالت المشافهة هي التي تشكل أساس المعرفة لدى غالبية السودانيين، وقد لعب المؤرخ السوداني الدور الأكبر في تغبيش الوعي الجمعي للأجيال المتعاقبة للسودانيين بإيراد معلومات تفتقر إلى الدقة والصحة كما وقد أرخ في المناهج الدراسية ومنها على سبيل المثال حول الدولة السودانية وتأسيسها . إن الدولة السودانية المحمية بالقانون الدولي والمعبرة عن هوية الشعوب السودانية المتواجدة في الأراضي السودانية اسسها إسماعيل باشا بن محمد علي باشا الوالي العثماني على ولاية مصر في عام ١٨٢١م بضمها لولاية مصر العثمانية ، والصحيح أنه لم تكن هناك دولة، تدار كوحدة سياسية وأحدة أنذاك في الأراضي السودانية، بل كانت هنالك حضارات إنسانية وممالك ضاربة القدم في أرض كوش وممالك المغرة وسوبا كما ونشات ممالك الداجو والتنجر والفونج ودارفور ودارمساليت وتقلي وفي جنوب السودان والشرق توجد الهويات التي تأسست في ظل تلك العهود وكانت تمثل هويات الشعوب التي تتواجد على الأرض وقتذاك، وكلها تقع ضمن الإقليم الجغرافي الواسع الذي يطلق عليه الأراضي السودانية في تلك الحقبة من التاريخ البشري ، وكان الولاء للملك أو السلطان أو الأمير وهو الذي يحدد الهوية ويمنحها كما ويقنن حق الانتفاع بالأرض . إن الدولة الحديثة نفسها تم تقنينها عبر الإعتراف المتبادل بشخصيتها القانونية الدولية المستقلة وسيادتها التامة على إقليمها الجغرافي البري والبحري والجوي بموجب صلح وستفاليا ١٦٤٨م حينما رفضت دول أوروبا تقسيم العالم خارج أوروبا بين البرتغال وإسبانيا والذي تم باتفاق بين المملكتين في بورت سيلاس ١٤٩٤م برعاية البابا عقب عودة كولمبس مكتشف الأراضي الجديدة والرسو بسفينته قبالة سواحل البرتغال وتمسك ملك البرتغال باحقيته على الأراضي المكتشفة باعتباره انه اول من علم بالاكتشاف .والأراضي المكتشفة
المواطنة ودولة الأمير .
لقد كانت المواطنة في اوروبا تتمثل في الانتماء للأمير والتبعية للأسر الوطنية الحاكمة في أوروبا بالوصاية ودون تفويض إنتخابي ، والمواطنون هم رعايا الأسر الحاكمة المشملون بحمايتهم ورعايتهم والتفاني في خدمة الأمير الراعي لرعيته يمثل قمة الولاء للدولة ، وفي كتابه بإسم الأمير كتب كاتب الأمير (كاتب الدولة) نيكولا ميكافيللي عن مدى ولائه للأمير واكتفائه للمجهود الحربي في مواجهة الأسر الطامعة في إمارة الأمير بالقدر القليل من الأوقيات بمقدار حاجة طعام حصانه والأقل من الراتب الذي يقضي به احتياجاته وكان حرصه في التفاني في خدمة الأمير (آل مديتشي) في مواجهة الأعداء من الأسر المتربصة بالأمير والإمارة والغاية كانت عنده في حماية الأمير والإمارة والدفاع عنهما بكافة الوسائل وقدم ميكافيللي أروع دروس التفاني في حماية الأوطان ممثلة في الأمير ولم يكن كما صوره خصوم آل مديتشي من الأسر الآخرى انه كان انتهازيا . إن الإعتماد على المشافهة والحكي من دون التقصي والتحقيق في الوقائع خاصة في الوقائع التاريخية والقضايا العامة لن تخدم الحقيقة في شيئ ولا المصلحة العامة بل تنشئ أجيالا متعاقبة لا تتصالح مع ذواتها.
قواعد تأسيس الدولة السودانية :
إن التقرير بشأن مصير الأراضي الخاضعة لدولتي الحكم الثنائي كانت بتطلب أولا ممارسة الحكم وتكوين إدارة حكم ذاتي لتمارس الحكم وتم تأسيس ذلك الحكم والإدارة الذاتية بإنتخاب البرلمان الأول في نوفمبر ١٩٥٣م ومن يقرأ تاربخ السودان وإعلان استقلال السودان يجد ان السودانيون قرروا في مصير البلاد بإرادتهم الحرة ولم يكن الاستقلال كما يصوره البعض تم بمقترح قدمه احد النواب(الشيخ دبكة نائب دائرة بقارة غرب بجنوب دارفور ) وثناه النائب مشاور جمعة سهل (نائب كردفان دار حامد غرب ) بل كان فصلا من فصول ممارسة الحكم الذاتي .وفي القانون المنشئ للحكم الذاتي والتدريب في ممارسة الحكم احتفظ الحاكم العام بحق تعيين إثنين من جنوب السودان ضمن طاقم الحكم الذاتي . هنالك من يسعى لتغييب الحقائق وتحويل حتى الأخطاء الفادحة في ممارسة الحكم لإنجازات وفي المشافهة ان الزعيم الأزهري حينما شارك في مؤتمر عدم الانحياز بباندونق ١٩٥٥م وكان أمام ممثلي الدول المشاركة أعلام بلدانهم، وحينما سئل عن علم بلاده أخرج منديله من جيبه ووضعه أمامه كسائر ممثلي الدول الآخرى مما وجد الاستحسان، ولا يُدرك المحتفون بهكذا رويات بأن أعلام الدول تعبر عن رمزية لشعب الدولة وليست مجرد قطع قماش توضع على المناضد في لقاءات واجتماعات رؤساء الدول .
لو تمعن د ضيو مطوك في قواعد تأسيس الدولة السودانية لوجد أن قواعد التأسيس وضعت حتى يتسنى لدولة بحجم قارة مثل الأراضي السودانية الانتقال من مرحلة الاستعمار لإدارة مدنية ديمقراطية نابعة من شعوب الدولة نفسها ،وهذه من التجارب التي لم يستفد منها السودانيون الذين ورثوا دولة كان المستثمر الاجنبي يدخل إليها بشهادة مقدرة مالية والجنيه السوداني يعادل ما يقارب أربعة دولارات ،وخدمة مدنية هي الأكثر كفاءة في أفريقيا ومؤسسات تعليمية عريقة مثل جامعة الخرطوم حتى الأندية الإجتماعية والثقافية اسسها المستعمر الإنجليزي في مايو ١٩١٨م لتمكين الخريجين الذين تخرجوا في المدارس التعليمية من ممارسة الحياة الثقافية والاجتماعية الحديثة ، ونتيجة للتطور في اوساط الخريجين السودانيين في ١٩٣٧م من مدينة ود مدني وكان من مقدمة متعليمها الأستاذ أحمد خير المحامي كتب محمد خير مقالات صحفية دعا فيها لقيام مؤتمرات للخريجين السودانيين على غرار مؤتمرات الهند .
إن عدم قراءة قواعد التأسيس قراءة صحيحة هي من جعلت قوات الدعم السريع ترفع شعار إنهاء دولة ١٩٥٦م، وهي لا تدرك مآلات هذا الانهاء كمثل الذين يتحدثون عن مشروعات تأسيس الدولة السودانية وهي اصلا موجودة وهم يحملون عقد مواطنتها، ويتقاتلون من أجل انهائها ولا يدركون النتائج لتدخل البلاد مرحلة الفوضى الشاملة .
حزب الأمة وانفصال جنوب السودان :
في مقاله الرابع في سجاله مع نقاد كتابه كتب د. ضيو مطوك عن مسؤولية حزب الأمة والصادق المهدي في تازيم الأوضاع بجنوب السودان ورفض تبرئة الحزب ورئيسة الإمام الصادق المهدي من مأساة جنوب السودان ودفعهم للإنفصال عن السودان .انا هنا لست معنيا بالرد عن حزب الأمة أو مؤسساته أوعضويته ولكن اتناول وقائع مرتبطة بالممارسة السياسية العامة بالبلاد وهذا الحق مكفولا لكل باحث أو مهتم .
مذبحة الضعين مارس ١٩٨٧م :
لا أحد يستطيع أن ينكر مدى بشاعة مجزرة الضعين التي حدثت في مارس ١٩٨٧م ولكن ما الرابط الذي يجمع بين المجزرة بحزب الأمة ورئيسه الصادق المهدي بل وجميع منسوبي الرزيقات، فالمجزرة البشعة وقعت في نطاق جغرافي محدد وفي منطقة الضعين، كما وفي منطقة الضعين لم يشترك كل أبناء الرزيقات في المجزرة وبالتالي المسؤولية عنها كانت في نطاق مرتكبيها . د ضيو مطوك لو بحث عن الوقائع في سياق الأوضاع القائمة وقتذاك لوقف على توترت حدثت جراء قيام الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة د جون قرنق بدخول منطقة سفاهة بجنوب دارفور ،وهي من مناطق تواجد المنتسبين لقبيلة الرزيقات، وسقط أفراد من قبيلة الرزيقات جراء الاقتتال ، وهنالك بعض الذين قاموا برصد تلك الأحداث وارجعوا ما حدث في الضعين من مجزرة بشعة للثار القبلي، ولكن يظل ما حدث من قتل جزافي (مرفوضا رفضا باتا ومدانا) ايا كان دوافعه، كما ولا يجوز التبرير بوقوع أحداث قتل في منطقة ما للقيام بمجزرة انتقامية في مكان آخر لأي سبب من الأسباب وأخذ القانون باليد والانتقام ممن لا صلة لهم بالأحداث .
في أغسطس ١٩٨٦م أسقطت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان طائرة مدنية تابعة للخطوط الجوية السودانية فوكرز والتي كانت تحمل ٦٠ راكبا في رحلة من ملكال إلى الخرطوم وقتل جميع ركابها وأعلنت الحركة الشعبية مسؤوليتها عن الحادث وفي مايو ١٩٨٧م أسقطت طائرة مدنية آخرى . إن حزب الأمة والصادق المهدي لم يعلنا عن مسؤوليتهما عن مجزرة الضعين وقد فتحت بلاغات جنائية لملاحقة المتورطين في المجزرة وهم أفراد من منسوبي الرزيقات وليس كل قبيلة الرزيقات، لذلك بالضرورة النظر لهكذا وقائع في سياقه الصحيح وليس على شاكلة الإدانات المسبقة بلا مرجعية تقصي أو تحقيق ..
هل كان لحزب الأمة علاقة بالمراحيل والتسليح القبلي ويتحمل مسؤولية تأسيس المليشيات القبلية بمثل ما حدث في عهد الإنقاذ؟ هذا ما سنتناوله في مقالنا القادم