
من واقع التدفقات المائية هذا العام 2025 ، أثبتت منظومة السدود السودانية حتي الأن قدرتها على إدارة فيضان نهر النيل الأزرق بكفاءة عالية ، رغم المتغيرات الإقليمية المعقدة المرتبطة بسد النهضة الإثيوبي. مع بلوغ الإيرادات المائية ما يقارب 98 مليار متر مكعب، وهي كمية تفوق المتوسط التاريخي للنهر، حافظ مجرى النيل على استقراره دون تسجيل فيضانات كارثية، في مشهد يعكس توازنًا دقيقًا بين الاستعداد الفني المحلي والتنسيق الإقليمي المحدود.
تاريخيًا السدود السودانية الممتدة من الرصيرص وسنار إلى مروي أدت دورًا محوريًا في امتصاص تدفقات النيل، خاصة خلال ذروة التصريف في سبتمبر، حيث لم تتجاوز كميات المياه الخارجة من سد الرصيرص 550 مليون متر مكعب يوميًا. هذا الأداء يعكس فاعلية التشغيل المدروس، والقدرة على التنبؤ بالتغيرات الموسمية عبر استخدام البيانات التاريخية وتقنيات الرصد الحديثة.
لكن هذه الكفاءة لا تنفصل عن السياق الجيوسياسي الذي يفرضه سد النهضة، إذ باتت دورات الفيضان والجفاف في السودان مرتبطة بشكل مباشر بتوقيتات الملء والتفريغ في السد الإثيوبي، بما يحوّل إدارة المياه من ملف فني بحت إلى قضية سياسية بامتياز.
هذا بالنظر إلى أن الرئيس الإثيوبي بحسب وكالات أعلن في يوليو الماضي عن اكتمال سد النهضة، ودعا السودان ومصر للمشاركة في حفل الافتتاح المرتقب في سبتمبر من هذا العام، مؤكدًا أن السد يمثل فرصة للتنمية المشتركة وليس تهديدًا لتدفقات المياه، ما يضيف بعدًا سياسيًا هامًا لإدارة الفيضان ويعزز الحاجة إلى التنسيق الإقليمي المستمر.
السودان، باعتباره دولة وسطى في مجرى النيل، يقع في قلب معادلة مائية معقدة . فهو يتلقى التأثير المباشر لأية قرارات تتخذها إثيوبيا بشأن سد النهضة، ويؤثر في ذات الوقت على تدفقات المياه إلى مصر. من هنا، تبرز أهمية تعزيز التنسيق الثلاثي على أساس اتفاق إعلان المبادئ الموقع في الخرطوم عام 2015، والذي نص على ضمان الاستخدام العادل للمياه، وعدم التسبب في ضرر لدول المصب، والتشاور في كل ما يتعلق بملء وتشغيل السد. ومع أن الاتفاق وضع أساسًا للتعاون، إلا أن الواقع التنفيذي ظل متعثرًا في ظل تباين المواقف السياسية وتأخر الوصول إلى آلية دائمة لتبادل المعلومات والتنسيق الفني.
محليًا، اتخذ السودان إجراءات استباقية لتفادي أي مخاطر محتملة، خاصة في مناطق الهشاشة على ضفاف النيل. فقد أصدرت اللجنة العليا لطوارئ الخريف والفيضانات بمحلية مروي بالأمس تحذيرات مبكرة بشأن ارتفاع تدريجي محتمل في مناسيب المياه خلال الفترة من أغسطس إلى أكتوبر، وهو ما استدعى خطة ميدانية لفتح بوابات المفيض في خزان مروي، ورفع درجة التأهب في القرى والمشاريع الزراعية المجاورة.
بجانب هذه الاحتياطات، طمأن خبراء في الموارد المائية، من بينهم الدكتور عثمان التوم حمد، الرأي العام بأن النيل هذا العام يلتزم مجراه الطبيعي، ولا توجد مؤشرات علمية توحي بوقوع فيضان مدمر أو انحسار مقلق.
النجاح في إدارة هذا الموسم كان نتيجة تراكم خبرات فنية وإدارية، واستخدام أدوات تكنولوجية متقدمة في التنبؤ والرصد. ومع ذلك، فإن بقاء هذه المنظومة فعالة يتطلب الاستمرار في تحديث نماذج التشغيل، ودمج التقنيات الحديثة ، وتعزيز التعاون الإقليمي لضمان الشفافية في تبادل البيانات المائية. فمع تفاقم آثار تغير المناخ وتكرار الظواهر المناخية المتطرفة، لن يكون كافيًا الاعتماد على ما تحقق فقط، بل لا بد من بناء قدرة استباقية تسمح بالتعامل مع سيناريوهات أكثر تطرفًا في المستقبل.
هذا وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة فإن استقرار النيل هذا العام يُعد مؤشر على مستوى الكفاءة المحلية والتخطيط المدروس، حتى في ظل بيئة إقليمية معقدة. وما دام الفيضان قد أُدير دون أزمات تُذكر، فإن ذلك يمنح الدول الثلاث فرصة لتقييم الوضع الراهن بعقلانية، والانطلاق نحو تفاهمات أوسع تعزز الأمن المائي وتُرسخ مبدأ النهر كعنصر للتعاون لا للصراع. فبين سد النهضة وسدود السودان، لا تزال معادلة إدارة الفيضان مرهونة بالإرادة السياسية بقدر ما هي مرهونة بالتدفق الطبيعي للمياه.
دمتم بخير وعافية.
الثلاثاء 12 أغسطس 2025م Shglawi55@gmail.com