رحمة عبد المنعم يكتب من أسوان: قطار المنظومة رقم (20).. دموع الفرح على رصيف السد العالي

كنتُ ضمن وفدٍ من رؤساء تحرير الصحف وقادة الرأي السودانيين الذين غادروا القاهرة إلى أسوان، لنشهد بأعيننا، لا بما يُكتب على الورق فقط، لحظةً لا يمكن أن يخطئها التاريخ: وصول القطار رقم (20) لمشروع العودة الطوعية المجانية الذي تتبنّاه منظومة الصناعات الدفاعية إلى محطة السد العالي، قادماً من محطة رمسيس بالقاهرة، في مبادرة وطنية كبرى لإعادة السودانيين إلى وطنهم، لم يكن المشهد عادياً ولا عابراً، بل كان تجسيداً لمعنى الكرامة الوطنية حين تتحوّل العودة من المنافي إلى أرض الوطن إلى طقسٍ جماعي يفيض بالدموع والفرح معاً.
شاهدنا بأمّ أعيننا انتقال العائدين بعد وصولهم إلى محطة السد العالي من مقاعد القطار إلى الباصات المتّجهة إلى مدينة وادي حلفا، ومنها إلى عطبرة والخرطوم، وسط أجواء إنسانية غامرة،وبين الحشود، كان الطفل الصغير الذي يلوّح بيده مودّعاً أسوان وكأنّه يعلن بداية جديدة، والمرأة المسنّة التي استندت إلى مقعد نقل متحرّك لكنّها استندت أكثر إلى الفرح، وجهها يضيء بابتسامة انتصارٍ بعد غيابٍ طويل، والشيخ الكبير الذي احتضن أحفاده بحرارة فغلبت دموعه على قسمات وجهه، في مشهدٍ مهيب لن يُمحى من الذاكرة.
أمس غادر (29) بصّاً إلى السودان محمّلاً بالعائدين، وهو امتداد لرحلاتٍ متواصلة جعلت من المشروع واحداً من أضخم عمليات العودة الطوعية في تاريخ البلاد، ووفقاً لإحصاءات منظومة الصناعات الدفاعية، فقد تمّ حتى شهر سبتمبر تسيير (1,480) باصاً سفرياً نقلت نحو (73,515) عائداً، منها (16) باصاً انطلقت من أسوان ومحافظات الصعيد، كما تمّ تسيير (20) رحلة بالقطار أعادت حوالي (26,650) عائداً، ليبلغ إجمالي عدد العائدين خلال المرحلتين الأولى والثانية من المشروع حوالي (100,865) مواطناً، بالإضافة إلى رحلة يوم أمس التي نقلت (1,450) مواطناً.
إنّ ما فعلته منظومة الصناعات الدفاعية ليس تنظيماً لوجستياً فحسب، بل هو فعل سيادي عميق يُعيد الثقة بين المواطن والدولة، أن تقول لمواطنيك: لن تبقوا غرباء في دول اللجوء، بل ستعودون بكرامة، هو المعنى الحقيقي لفكرة الوطن، وهنا يحقّ لنا أن نشيد بالجنرال الفريق أوّل ميرغني إدريس سليمان، الذي جمع في قيادته بين العقل الاستراتيجي والرؤية الإنسانية، فقد جعل المنظومة تمدّ الجيش بالسلاح الذي دحر مليشيا الجنجويد، وفي الوقت ذاته ابتكر مشروع العودة الطوعية ليؤكد أنّ المنظومة ليست بعيدة عن الناس، بل هي حاضرة في ساحات المعارك كما في المبادرات التي تمسّ حياة المواطنين مباشرة، إنّه قائد استثنائي أدار المعركة بيد، وباليد الأخرى فتح الأبواب لعودة عشرات الآلاف إلى أرضهم، مثبتاً أنّ الدفاع عن السودان لا يكتمل إلا بالدفاع عن إنسانه.
ولم يكن هذا الجهد ليتحقّق لولا وجوهٌ مخلصة تعمل في الظلّ، على رأسها مديرة المسؤولية المجتمعية في المنظومة، الصديقة الأديبة المهندسة أميمة عبد الله، التي رأيناها تتابع التفاصيل بنفسها وتسهر الليل بالنهار من أجل نجاح كلّ رحلة، أكثر من مرّة لمحتُ دموعها وهي تُشرف ميدانياً على عمليات التفويج، دموع امتزج فيها التعب بالفخر والمسؤولية، فأدركنا أنّ هذا المشروع ليس مجرد واجبٍ وظيفي بالنسبة إليها، بل رسالة إنسانية قبل كل شيء، إنّها سيدةٌ تستحقّ التكريم والتقدير، لأنّها جسّدت بأدائها الصادق وجه السودان الحقيقي: النبيل، المتماسك، والوفي لأهله.
كما لا يفوتنا أن نسجّل إشادةً مستحقّة بمسؤول الإعلام الأستاذ محمد سعيد، ذلك الرجل المهذّب وصاحب الوجه المبتسم، الذي ظلّ حاضراً في كلّ عمليات التفويج، ينجز عمله بصمتٍ وتواضعٍ وإخلاص، لقد كان بحقّ الجندي المجهول الذي لم يسعَ إلى الأضواء، بل جعل من نجاح المشروع أولوية تتقدّم على كل شيء، التحية له، ولكلّ الجنود المجهولين الذين يقفون خلف هذا الجهد العظيم.
إنّ انتصارات الجيش في الميدان تقابلها انتصارات أخرى لا تقلّ شأناً ولا أثراً: عودة اللاجئين إلى وطنهم ليبدؤوا من جديد مسيرة البناء، بهذا المعنى، تصبح العودة الطوعية امتداداً لمعركة الكرامة، ورسالة بأنّ الوطن لا يكتمل بالدفاع عن ترابه فقط، بل باستعادة أبنائه إلى حضنه.
ومشروع العودة الطوعية الذي نفّذته منظومة الصناعات الدفاعية ليس حدثاً عابراً، بل عمل كبير يرقى إلى مستوى الإنجاز الوطني والتاريخي، لأنّه أعاد المعنى لمفهوم الدولة، ووضع لبنةً حقيقيةً في طريق إعادة بناء السودان، ولعل الأجيال القادمة ستتذكّر أنّ قطاراً وباصاً ودموع فرح، كانت جميعها شاهدةً على لحظةٍ فارقة قالت بوضوح: إنّ السودان مهما جُرّح وتكسّر، سيظل قادراً على أن يحتضن أبناءه ويعيد الحكاية إلى سكّتها الصحيحة.