
اصداء حول موتمر اتحاد المقاولين العالمي: (1-3)
الإسكان الحضري بين تراجع الإنفاق الحكومي
واتجاه مؤسسات التمويل إلى الشراكة
دكتور مهندس مستشار مالك علي دنقلا
في ظل التحولات العالمية المتسارعة التي يشهدها قطاع البناء والتشييد والإسكان أصبح بناء مدن مستدامة ومرنة تحديا ملحا أمام الحكومات ومؤسسات التمويل على حد سواء جاء مؤتمر اتحاد المقاولين العالمي (CICA) الذي انعقد في باريس مؤخرا ليثير نقاشا مكثفا بين خبراء البناء والتشييد حول كيفية بناء مدن أكثر مرونة وديناميكية في ظل ثلاثة تحديات كبري؛ اولها التغيرات المناخية، وثانيها التحولات الديموغرافية، وثالثها الثورة الرقمية، وذلك من الرؤية إلى واقع ملموس يخدم السكان ويعزز الاستدامة.
وقد برز ملف الإسكان كأحد أكثر الملفات اهمية، في ظل تراجع الإنفاق الحكومي علي الاسكان وتقلص المنح الدولية ما دفع مؤسسات التمويل الدولية إلى إعادة رسم سياساتها والاتجاه المتزايد نحو الشراكات مع القطاع الخاص.
وقد كانت اهم الملاحظات في هذا الصدد ما يلي:
1- انكماش الإنفاق العام على الإسكان وتكاليف البناء المتصاعدة:
– تراجع الاستثمار العام في الاسكان على مدى العقدين الماضيين حيث انخفض الاستثمار العمومي في تطوير الإسكان بأكثر من 50% في المتوسط، وهذا التراجع ترافق مع ضغوط مالية على الحكومات دون الوطنية تقترب من مستويات ما بعد أزمة 2009.
– ارتفاع تكاليف الإنشاء بأكثر من 70% خلال الفترة من عام 2000 الي 2019، بينما تصاعدت الأسعار الحقيقية للمساكن بأكثر من 40% خلال 2013–2023. الامر الذي تسبب في تراجع بناء المساكن.
– تضخم تكلفة الوحدات السكنية المدعومة بصورة لافتة، الأمر الذي حدّ من القدرة على إنتاج العدد نفسه من الوحدات ضمن الموازنات المتاحة، كما دفع هذا الارتفاع شرائح أوسع من الأسر متوسطة الدخل إلى التوجه لبرامج الدعم العامة، مما ضاعف الضغوط على على الموازنات المحدودة.
– – أسهم بطء تحديث خطط استخدامات الأراضي وتضخم الاشتراطات التنظيمية في زيادة التكاليف الزمنية والمالية على المشروعات، بينما ظلّ معدل تجديد المباني منخفضة الكفاءة الطاقية في أوروبا عند نحو 1% سنويًا فقط، رغم الحاجة الكبيرة لرفع كفاءتها وإعادة تأهيلها.
2- تراجع المعونات والمنح الدولية وتغير بيئة التمويل
– تضاؤل المنح: شهدت منظومة المنح الدولية تراجعا واضحا، حيث أُوقفت برامج وخفضت برامج لدى عدد من الجهات المانحة من بينها أجزاء من برامج المساعدة الأمريكيةكما انكمشت المخصصات في عدة دول أوروبية بفعل أولوياتها الداخلية وضغوطها المالية.
– أثر مضاعف: فرض تراجع المنح ضغوطا إضافية على قدرات البلديات والحكومات في تمويل مشروعات البنية التحتية السكنية والاجتماعية، وقلص في الوقت نفسه هامش قدرتها على التدخل المباشر في خفض كلفة السكن.
3- استجابة مؤسسات التمويل من خلال تعديل سياسات المشتريات والتمويل والانتقال إلى الشراكات:
– البنك الدولي: اعلن عن حزمة تغييرات في سياسات المشتريات تهدف إلى رفع جودة المخرجات وتعزيز مشاركة القطاع الخاص، من أبرزها؛ اعتماد معايير تقييم مدرجة للجودة في المناقصات الدولية، و إلزامية الإشراك المبكر للسوق في العقود التي تتجاوز 10 ملايين دولار، بهدف تعزيز تنافسية الجودة وتحسين نماذج التسليم، واشتراط تخصيص ما لا يقل عن 30% من كلفة العمالة للعمالة المحلية في العقود الدولية، لتعظيم الأثر التنموي داخل الدول، وإتاحة المدفوعات المباشرة في العقود الدولية الكبرى وتوسيع قنوات الشكاوى، وتفعيل مبدأ الاعتماد المتبادل مع مؤسسات التمويل المختلفة، وتشجيع تجميع المشتريات واعتماد الشراء المُيسّر والمجمّع للدول الصغيرة والهشة، بما يخفض الكلفة ويحسّن شروط التعاقد في السوق.
– بنك الإعمار الأوروبي : من خلال مبادرة المدن الخضراء التي تبلغ قيمتها 7 مليارات يورو، قدم البنك مزيجا متنوعا من أدوات التمويل يشمل القروض السيادية وغير السيادية، والضمانات، والتمويل بالعملات المحلية، إضافة إلى السندات الخضراء والمستندة إلى معايير الاستدامة، مع أمثلة تطبيقية على مشاريع كفاءة الطاقة، وتطوير النقل العام، والحلول القائمة على الطبيعة.
– مؤسسة التمويل الدولية: أطلقت أدوات مبتكرة لتوجيه رأس المال الخاص نحو مشاريع العمران الأخضر، أبرزها المعيار العالمي للاستدامة في البناء (EDGE) وهو معيار موثوق لقياس وتوثيق كفاءة الطاقة والمياه والمواد في المباني يسهل الحصول على التمويل الأخضر ويقلل من التكاليف الإضافية المرتبطة بالاستدامة، كما اطلقت (APEX) وهي أداة للتخطيط الاستثماري تساعد المدن على ترتيب أولويات المشاريع ذات التأثير الأكبر في خفض الانبعاثات، وبناء حافظة مشاريع قابلة للتمويل، مع تمكين قنوات التمويل المباشر ومن خلال المؤسسات المالية، إضافة إلى استخدام السندات والقروض المرتبطة بالاستدامة.
ازدياد اهمية الشراكات بين القطاعين العام والخاص في تجاوز الازمات الاقتصادية الحالية.
في ظل التحديات الاقتصادية المتزايدة التي تواجه دول العالم، لم يعد في امكان الحكومات وحدها مواجهة ضغوط النمو وتوفير خدمات البنية التحتية وضمان استدامة المشروعات وتحقيق النمو، و هنا تظهر أهمية الشراكات بين القطاعين العام والخاص، كأداة استراتيجية قادرة على توحيد الموارد والخبرات، وتسريع تنفيذ المشاريع الحيوية، وتوفير حلول مبتكرة لمشكلات لا تستطيع الدولة حلها بمفردها؛ وبالتالي، فان هذه الشراكات لا تساعد فقط في تخفيف الأعباء المالية على الحكومات، بل تفتح أيضا آفاقا جديدة للاستثمار وتطوير البنية التحتية بما يتماشى مع متطلبات المستقبل المستدام، فهي تجمع بين خبرة التخطيط الحكومي، وخبرة القطاع الخاص في إدارة المشروعات وتحقيق الأرباح، بما يضمن تنمية مستدامة ومشروعات قابلة للتمويل وذات تأثير ملموس على الاقتصاد ويزيد من فرص النجاح ويحقق التوازن بين المصلحة العامة والعوائد الاقتصادية؛ وتتضح أهمية الشراكات بين القطاعين العام والخاص كخيار استراتيجي وحيوي لتجاوز الأزمات الاقتصادية وبناء مستقبل مستدام من خلال عدة أسباب:
اولا، فجوة تمويلية ضخمة: الحاجة العالمية لتصفير كربون المباني القائمة تقدر بحوالي 5.2–5.4 تريليون دولار حتى عام 2050، ومع تراجع المنح وقيود الموازنات العامة، أصبح الاعتماد على رأس المال الخاص ضرورة ملحة.
ثانيا، ملاءمة خصائص الشراكات للإسكان والبنية الحضرية: توفر الشراكات بين القطاعين العام والخاص إطارا عمليا ومرنا لتنفيذ مشاريع الإسكان والبنية التحتية بكفاءة عالية.
ثالثا، تقاسم المخاطر: تمكن هذه الشراكات من نقل جزء من مخاطر التصميم والطلب والتشييد إلى الطرف القادر على إدارتها بكفاءة مقابل عائد محددتعاقديا.
رابعا، معايير خدمة وأداء واضحة: ترتبط الدفعات في العقود الطويلة الأجل بتحقيق مؤشرات أداء محددة تشمل التوافر والجودة وكفاءة الطاقة، وتقليل فاقد المياه والكهرباء.
خامسا، قابلية التمويل البنكي والاستثماري: توفر الشفافية والتعاقدات المعيارية جاذبية أكبر للمقرضين والمستثمرين المؤسسيين، مما يسهل تمويل المشاريع.
سادسا، القطاعات ذات الأولوية العالية: تشمل تطوير الإسكان الميسر ضمن مخططات استخدام مختلطة، تحديث المباني العامة، تحسين شبكات المياه والصرف لتقليل الفاقد، النقل الجماعي، إدارة النفايات والطاقة الموزعة.
وبهذه الطريقة، تتحوّل الشراكات بين القطاعين العام والخاص إلى أداة فعالة لتحقيق التنمية المستدامة وضمان استمرارية المشروعات الكبرى في مواجهة تحديات الاقتصاد الحديث.
كيفية تصميم شراكات ناجحة بين القطاعين العام والخاص للإسكان والمرافق الحضرية.
يتم ذلك من خلال مايلي:
اولا، الإعداد المسبق القوي: الاعتماد على منصات مثل SOURCE التابعة للأمم المتحدة لبناء خط مشاريع قابل للاستثماريتضمن فحوص جاهزية، مصفوفات توزيع المخاطر، وضمان توافق مع معايير الجودة والاستدامة.
ثانيا، نماذج تعاقدية ذكية: اعتماد نماذج تسليم تعاونية/تحالفية (CDM/Alliance) لتعزيز اليقين وتقليل النزاعات عبر دفتر مفتوح وآليات تقاسم الأرباح والمعرفة منذ مرحلة التطوير، و تبني عقود NEC مع خيارات مثل البناء بناء على برنامج، استخدام BIM، كلفة دورة الحياة، مشاركة مبكرة للمقاول، وبنود مناخية (X29).، و دمج مكوّنات التشغيل والصيانة (O&M) المرتبطة بالأداء، حيث تربط الدفعات بمؤشرات قابلة للقياس مثل EDGE، حاسبات الاستهلاك، والعدادات الذكية.
ثالثا، هيكلة مالية هجينة: من خلال استخدام تمويل مختلط يجمع بين قروض سيادية أو بلدية، سندات خضراء أو مرتبطة بالاستدامة، ضمانات ائتمانية، ومنح فنية صغيرة لإعداد المشاريع، وأدوات عملة محلية لتقليل مخاطر الصرف، وتسهيلات ائتمانية للمستفيد النهائي في الإسكان مثل الرهون الخضراء أو الإيجار المنتهي بالتملك.
رابعا، حماية القدرة على التحمل الاجتماعي: تطبيق مقتضيات القيمة مقابل المال مع تحديد سقوف إيجارية، وضمان حق العودة عند إعادة التطوير، وتخصيص حصص للإسكان الميسّر ضمن مشاريع متعددة الدخل، و اشتراط المحتوى المحلي وتشغيل المجتمع المحلي، مع توفير برامج تدريب وتأهيل مهني للمستفيدين.
ماذا يعني ذلك لصانعي السياسات والمطورين؟
اولا، بالنسبة لصناع القرار: إعادة توجيه الدعم من التركيز على بناء وحدات إلى تعظيم الإنتاجية، من خلال تحديث الأكواد (أكواد طاقة إلزامية، تنظيم كربون دورة الحياة)، تبسيط تراخيص الأراضي، وتسريع الموافقات الرقمية، وإنشاء أطر PPP شفافة، مع وحدات مركزية لبناء القدرات والحَوْكمة، وتبني آليات فض المنازعات المبكر مثل مجالس DAAB لتجنب التعثر في المشاريع.
ثانيا، بالنسبة للبلديات: إعداد أدوات مثل GCAP/APEX لتحديد الأولويات ذات الأثر الأعلى وجذب التمويل، وإصدار سندات خضراء أو مرتبطة بالاستدامة حيثما أمكن، و تطوير برامج إسكان ميسر قائمة على الأداء ضمن إطار PPP، مع مراقبة ذكية للأثر الاجتماعي والبيئي.
ثالثا، بالنسبة للقطاع الخاص: مواءمة التصميم مع الأداء القابل للتمويل، عبر اعتماد معيار EDGE لتقليل التكاليف الإضافية وإثبات الأثر البيئي، واستخدام نماذج تسليم تعاونية لتخفيض مخاطر الكلفة والجدول الزمني، و الاستثمار في التوأم الرقمي وإدارة الطاقة لرفع كفاءة التشغيل وتحسين ملف المخاطر أمام الممولين.
خاتمة:
مما سبق يتضح ان مؤتمر الاتحاد العالمي للمقاولين قد ابرز أهمية إعادة التفكير في نماذج التمويل والإسكان الحضري، حيث يشكل الانكماش في الإنفاق العام وتقلص المنح الدولية تحديا كبيرا، بينما تتيح الشراكات بين القطاعين العام والخاص فرصا حقيقية لتطوير المدن بشكل مستدام وفعال، ومن خلال السياسات المبتكرة للمؤسسات المالية العالمية، يمكن توجيه الاستثمارات نحو مشاريع العمران الأخضروتحسين كفاءة استخدام الموارد، وتعزيز قدرة المجتمعات على مواجهة التحديات المستقبلية، وأكد المؤتمر أن المستقبل العمراني يعتمد على التوازن بين الرؤية الاستراتيجية والتطبيق العملي بين التمويل الحكومي والشراكات الخاصة، وبين جودة البناء واستدامته البيئية والاجتماعية.
كما اوضحت المناقشات انه مع انخفاض الإنفاق الحكومي على الإسكان إلى نصف مستوياته المعروفة وارتفاع تكاليف البناء، ظهرت فجوة إنتاجية واضحة تحد من عدد الوحدات الممكن إنجازها، وبالتزامن مع تقلص المعونات الدولية، أعادت مؤسسات التمويل وعلى رأسها البنك الدولي، صياغة سياساتها للتركيز على تعظيم دور القطاع الخاص من خلال شراكات طويلة الأجل قائمة على الأداء، ويكمن نجاح هذه الاستراتيجية في قوة الإعداد، وشفافية التعاقد، وربط الدفعات بالمخرجات القابلة للقياس، مع ضمان حماية العدالة الاجتماعية واستدامة الأثر، وبهذه المقاربة، تتحول الرؤية إلى وحدات سكنية فعلية وبنية حضرية أكثر مرونة وكفاءة واستدامة.
*نواصل* ………




