ورحل صدام قبل ثلاثون عاما كتب صدام عن حكاية العودة إلى جذوره قادما من الخرطوم ليختم حكاية العودة قبل الاخيرة لجزيرة صاي…

يا ابوي ياخ تاني ما نرجع الخرطوم نهائي طيب…
وها هو يعود مرة أخرى لموطنة جزيرة بعد أن غادرها للدراسة والعمل بسبب الحرب اللعينة والتي أجبرت الكثيرين إلى النزوح والهجرة القسرية والعودة إلى الموطن الأصلي
ولكن عودتك كانت نهائيا في الموطن الذي احببته وتمنيت ان تكون فيه
الف رحمة ونور عليك..
▪من اوراق نوبية:
بقلم صدام تبد
•• الزمان العام 1991، أسرة خرطومية مكونة من ثلاث أبناء وثلاث بنات مهاجرة الي حيث جذورها (جزيرة صاي) وانا ابن (11) ربيعا ..
•• أختصر لكم رحلة القطار الى الشمال حتى لوكاندات وادي حلفا العريقة ثم لواري السكّوت والمحس العتيقة ، وآخذكم مباشرةً للحظة وصولنا مشرع جزيرة صاي الشرقي (البلى) حوالي السابعة والنصف مساءً.. اول ما استرعى انتباهي في صفاء سماء مشرع ( البلى) هو القمر🌙 لم اكن أدري قبلها أنه بهذا الجمال والألق ، وبدآ النهر أمامي قطعة من البلور..لم يكن نهرا ، بل كان سلسالا من الفضة يلمع مع شعاع القمر، والهواء لم يكن الهواء الذي عرفته في (الكلاكلة) بل كان شيئا لطيفا ناعما منعشا, كان شيئا لم اختبره من قبل وانا ابن الخرطوم حيث الغبار وعوادم السيارات وعفن القاذورات المتراكمة في ازقتها وشوارعها الذي تزكم الانوف ..
..والنجوم⭐ آه من النجوم كانت لامعة ، متوهجة ،مضيئة ومتناثرة في بهاءٍ عجيب لتضفي علي المشهد سحرا علي سحر ..كان مشهدا آسراً لطفلٍ أعتاد مساءات الخرطوم الخانقة وغبارها العالق في الهواء ..
••انتزعني من تأملاتي مركب كبير يتهادي ويمخر عباب البحر الفضي بثقة متجها إلينا..سألت ابي بدهشة :
– دا شنو يا أبوي..؟ قال لي دا المركب اللي حنعدّي بيهو ..
سألته مرةً اخري بدهشة اكبر : – نعدّي وين مش انت قلت وصلنا البلد؟!! ..- آي وصلنا لكن بلدنا بهناك من البحر ما هنا يا ولدي.. !
تراجعت قليلا خلف أبي عندما أقترب المركب ..لا أخفيكم انني كنت خائفا قليلا من ضخامته ومن ذلك (الساري) العظيم حيث كان يخيل لي أنه سيهوي علي رؤؤسنا في اي لحظة..! لكن سرعان ما تبددت مخاوفي عندما جاء صوت قائد المركب يفيض حنيةً وهو ينادي:
-(اووو ميد ألي تبد * محمد علي تبد* يااا مسكينتو.. زمن والله, يا مرحب يا مرحب نورتوونا..نورتوونا..) كان العم عبده خليفة بملامحه المريحة وصوته المميز وذلك الوجه النوبي الخالص .. أستطيع أن أقسم مطمئنا أن وجه وملامح العم عبده خليفه هي ( الإستاندرد ) المعتمد للوجه النوبي والملامح النوبية .. لم أر في حياتي وجها نوبيا (أصدق) من وجهه..! ، قفز الينا العم عبدة خليفه من المركب كأنه ابن العشرين وأخذ في إحتضاننا انا واخوتي واحدا واحدا ❤:
– إزيك يا ( سندل جايين تقعدوا معانا في البلد؟ يا مرحبا يا مرحبا )
ثم تبادلا الأحضان هو وابي في ودٍ عميقٍ طويل..أيضا كان مشهدا جديدا بالنسبة لي حيث لم اكن أعلم من التحايا إلا تلك التحايا الخرطومية الباردة وتلك المصافحة السريعة التي تخلو من الحميمية.. ! …تبع العم عبده خليفه ابنه محمد عبده ثم نادر علي خليفة ، حيّونا بشوقٍ لم اعرف له تفسيرا حتي الآن ،فقط هي القلوب الطيبة المعطاءة المُحِبة للناس والخير والجمال💛💙 ..
لحظات وكانت أمتعتنا تملأ المركِب والعم عبدة خليفة يوزّعنا علي جنبات المركب بخبرة السنين الطويلة ويصدر اوامره لمساعديه محمد عبده ونادر اللذان ينفّذان تعليمات قبطانهم بدقةٍ بالغة.. كنت مطمئنا سعيدا أنظر لهم بإكبارٍ وتعظيم كما لو أنهم ابطالا أسطوريين .. قادة الأسطول .. أخذنا المركب العتيق بحنوٍ ولطفٍ وثِقة الي الضفة الأخري ممخرا عباب بحر الفضة وانا أتحرق شوقا للوصول وأرسم في مخيلتي اشكال عن البيوت والناس والبلد عموما..
•• حانت مني إلتفاتةً للضفة الأخري فأري ثمة أضواء ومصابيح ومشاعل !! يا لهذه البلاد التي لا تنتهي مفاجآتها !! وقبل أن اسأل ابي سمعت لدهشتي سيلاً من الزغاريد أطلقنها حاملات المشاعل و( الرتاين ) أغلبهن كن من نِسوة وفتيات ( أمبي ) الطيبة.. كان إستقبالا مهيبا وهن يزغردن أكثر كلما اقتربنا منهم اكثر ، وينتابني شعور من الفرح كلما تزكرت تلك اللحظات البهية التي لن أنساها ما حييت، تلك اللحظات إختصرت تعريفات السعادة الكثيرة.. لو سألوني ما هي النشوة سأقول أنها كانت تلك اللحظات ،لا أملك لها تعريفاً آخر ، هي تلك اللحظات وتلك الزغاريد المُحِبة في تلك الليلة البهيّة .. والقمر يتألق مع هذا الجمال ويرسل لنا خيوطه الفضية لتحيل المشهد الي قطعةٍ من السناء والبهاء ..
•• نزلنا من المركب لتنهال علينا الأحضان والقُبل مرةً اخري !! .. كنت أشعر بالأسى للسنين التي أضعناها ما بين( القطعية وصنقعت وسوق 3 ) يا الله أيوجد مثل هذا الجمال؟ لم لم نأتِ هنا (من بدري) وأضِعنا تلك السنوات هناك..؟ هذا النسيم البارد النقي وحده يكفي..هذا القمر ، تلك المحبة التي غمرونا بها.. يحملني عمي محمد حسن جبارة علي ظهره مبتهجا وهو يغني لي ترنيمة ذات لحنٍ دافئ شبيهة ب( الكلكية ) كنت قد قررت أن اركب ذلك (الكارو) المُعد لأمتعتنا لكنني عدلت عن رأيي سريعا فثمة من يحملني علي ظهره مبتهجا ،بل ويغنّي لي🎻.. تحركنا كلنا في ما يشبه (الشوقر) في موكبٍ فريدٍ من الحب والقفشات والضحكات والأغاني والحنين، كانت مشاعري خليطا من الفرح والغبطة والدهشة والأمان ،سعيدا مطمئنا..
••سأنتزعكم من ذلك المشهد إنتزاعا واقفز بكم الي صبيحة اليوم التالي ، فما ان فتحت عيوني حتي قفزت من السرير وخرجت لأستكشف عالمي الجديد .. خرجت من المنزل واول ما لفت انتباهي اني أمشى فوق احجارا وحصى ملونة ومزخرفة بأشكال والوان بديعة! يا الله حتى الحصى .. ما هذه البلاد الجميلة الفريدة؟؟؟؟رفعت راسي لأتفاجأ ان منزلنا يبعد عن البحر بضعة أمتار فقط .. منزلنا يطلّ على النيل مباشرةً! لم يستطع عقلي الصغير إستيعاب كل هذا الجمال دفعة واحدة فرجعت وذهبت إلي امي راكضا وهي تصيح بي ( يا ولد مالك؟) فصحت بها انا ايضا ( ابوي وين؟) ابوك هناك قاعد برا مع عمك ..ليه ؟ لم أجبها بل تركتها فى دهشتها وركضت لأبي.. وانا اردد ابوي .. يا ابوي .. .. مالك يا ولد بسم الله
يا ابوي ياخ تاني ما نرجع الخرطوم نهائي طيب؟؟؟😅 ..
(( صدام محمد علي تبد))