الدكتور عمر مصطفى شركيان …في سلسلة أعرف ثقافتك (١)
في سلسلة أعرف ثقافتك (1)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
في لفتة سابقة أوجزنا الحديث – وفي الحديث شجون – عن إبداع الفنان عباس شريف، وما كان من أمره في استنطاق الفن الغنائي بنمطه الإبداعي، عزفا ولحنا وطربا ثم أداء. فاليوم هل أدلكم على فن آخر من فنون النوبة التي لا تبلى!
أنظروا واستمعوا ثم استمتعوا برقصة تاجينرا لقبيل الكرونقو، وتلك الفرقة الفنية التي تقوم بأدائها. أنظروا إلى هؤلاء الفتية بأزيائهم المزركشة، وهم يصطفون بصورة هندسية سندسية رائعة. وفي كل هذا وذاك إذا بأحد من هؤلاء الفتية الشباب يحمل آلة الربابة، ويظل يعزف على أوتارها، ويتغنى على أنغامها؛ وإذا بآخر يضع صفارة في فيه، وينفخ فيها ليخرج منها صوتا مموسقا؛ وإذا بآخر يهدر بصوت جمهور. ففي تناسق الألحان، واسترسال العزف الموسيقي، وسمو الهدير الصوتي، يلتحم ذلك كله في بوتقة موسيقية ليخلق ضربا من أضراب الفن، أو – بالأحرى لنقل – لعل اختلاط أصوات الفتية، ونغمات الربابة، وصفير الصفارة، ورنين الكشكوش، كل ذلك يخرج مزيجا فنيا رائعا، بحيث يغمر السامع سعادة، ويضفي على المشاهد بهجة، ويمنح الجمهور مسرة.
ثم إنك لترى الآخرين من فتية الفرقة الموسيقية تلك يحملون عصيا، ويلوحون بها عليا، وتلك العصي قد نالت نصيبها من الزينة، والربابة هي الأخرى موشحة على أطرافها بقطع صوفية، وهي تستحق ذلك تكريما لأدائها، والفتى الذي برز نافخا على صفارته قد وضع علر رأسه طاقية مزينة، والمايسترو الذي يعزف على آلةالربابة قد سور يديه بقطع جلدية ذات صوف منفوش، وطوق رقبته بخرز أبيض. إذا، ماذا تعني هذه الرقصة التي تقوم بها هذه الفرقة؟ وعلام تدعو – فيما تدعو – من وعظ وإرشاد؟
تلكم هي فرقة قبيل كرنقو، كما اسلفنا الذكر، وهؤلاء الشباب قد ولدوا وترعرعوا في منطقة كرنقو منذ بداية الحرب في إقليم جبال النوبة العام ١٩٨٧م، ولم يغادروها. ثم إن هذه الرقصة، التي تسمى تاجينرا – كما قلنا آنفا – يلعبها الشباب والشابات بعد انتهاء مراسم افتتاح مزرعة جديدة للعروسين الجديدين، وتسبق أداء هذا العرض الموسيقي مصارعة استعراضية بين الشباب قبل أفول شمس النهار. وللأغنية معنى ومغزى، إنها لتحكي عن وحدة النوبة، وتحثهم على التماسك مع بعضهم بعضا، وترك المشكلات والخلافات التي تعصف بهم يمينا ويسارا كعصف مأكول، ثم تعيدهم خلفا بدلا من السير بهم إلى الأمام، لأن الأعداء يتربصون بكم، ولا يعجبهم تماسككم. أنظروا إلى العرب من حولكم، وهم يسكنون الإمارات الشاهقة، وأنتم النوبة تتخذون من الجوالات سكنا لكم تحت الإمارات.
هذا ما كان من أمر هذا الفن الذي لم يكن عملا موسيقيا استعراضيا فحسب، بل فيه التعاضد في العمل الجماعي في نموذج النفير، والمواعظ الاجتماعية، والقيم الثقافية، وغيرها من المثل والعادات والتقاليد النبيلة التي يفتخر بها شعب النوبة، فإنك لترى الأطفال الواقفين المصطفين جانبا، وهم ينظرون إلى الفرقة في أدائها وقد اشرأبت أعناقهم، وأعجبهم أداؤهم، وها هم يمتصون هذا الإرث النوبوي منذ نعومة أظافرهم.
وإلى اللقاء في لفتة أخرى إذا شاء رب العزة والخلود.
بريطانيا، الأحد، الموافق
١٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٣م