تحقيقات وتقارير

الدكتور عمر مصطفى شركيان يكتب: من سلسلة أعرف ثقافتك (٣)

 

هل نعود إلى الإرث المشترك وسط مجتمعات النوبة في إقليم جبال النوبة! إنه هو الفن، الذي يمثل أحد عناصر الفلكلور، أو الفن الشعبي.
وما يدريك لعل الفن مرآة المجتمع، وتلك المرآة هي التي ترفع الروح المعنوية لساكني الديار، وتغرس فيهم الهمم، وتعزز عندهم سمو القيم. إذ ليس هناك ما هو أجمل في الفن حين يبرهن أن كل من كان هناك في ساحة الملعب البلدي لم يكن مشاركاً فاعلاً فحسب، بل كان فرحاناً جزلاً، وأكثر من ذلك حين ترى منظر الشيء البديع أمامك، وهو ينعكس إليك ظاهراً وكأنه يبتسم إليك، أو تجد الابتسامة سبيلاً إليك. أجل، الأغاني المطربة التي يتغنى بها ساكنو القرية من أفراد القبيل أي قبيل تبعث إلهاماً وذكرى، وتشيع ضوءاً وجمالاً، وترقص الناس كلهم أجمعون أكتعون حبوراً وطرباً. وإنك لتسمع هذه الأغاني الحماسية، والألحان الشجية، ومن ثم تشرع دون أن تشعر في التمايل غبطة وسروراً، وكأنك تسمع وتستمتع بهديل الحمائم في الخمايل، وسط هدير الماء في الجداول في وادٍ مخضر في مختتم الربيع، ومقتبل تباشير الخريف.
إذ تعتبر لحظات الغناء واحدة من أعظم المناسبات الاجتماعية المموسقة التي يجتمع فيها الفتية والفتيات، الكبار والصغار، وذلك لممارسة فنون الرقص، والتعبير عما يعشعش في جوانيتهم، ويجول في جوانحهم، ويعتمل في قلوبهم من لواعج الحب، وأصداء الذكريات عن طريق الترفيه والطرب الجماعي. ثم إنه ليمثل مناسبة لاستظهار مكامن القوة عند الشباب، واستعراض مفاتن الجمال عند الحسناوات، وذلك عندما يتحلى الجميع بأجمل ما عندهم من الكساء، وقد أخذوا الزينة من كل بيت.
يحمل الغناء والرقص وسط النوبة دوراً وظيفياً في الحياة اليومية، إذ أن الأغنية هنا لا تعبر عن أوضاع وهمية، بل تخاطب الوقائع، وشخوصاً معلومة، وأهدافاً معروفة، بل تحكي قصصاً، وترسل عبراً. لكن – فوق ذلك كله – إن الرقص لهي هبة في الإبداع الحركي التي فيها يجد النوبوي إشباعاً للمتعة، وسمواً للهمة. إن القوة والتواتر الإبداعي المصحوبان بالوطء على الأرض دكاً دكاً، والرشاقة التي بها يحرك الراقصون جسومهم، وسلوك الفخر والاعتداد بالنفس البائن على وجوههم، والطريقة التي بها يستقبل الصوت الانفرادي الأصداء العالية المتحدة من قبل الكورس، يمتزج ذلك كله مزاجاً سلسبيلاً ليعطي النوبوي بهجة يصعب التعبير عنها، أو الإلمام بها. وحين يتوقف التغني، يستمر ضارب الطبل في الضرب، ويتزيد فيه ضرباً واستكثاراً، والطبل يئن ألماً وشكياً، ومن هنا يصل الرقص قمته، ومن ثم يشرع كل فرد، ذاك الذي ظل متخماً بأحاسيس الاكتفاء الذاتي، في تفعيل حركات الاستجابة، وصياح التمجيد الذاتي.
الرقص عند النوبة هو في الأساس مجموعة من الأنشطة السلوكية التي فيها يأخذ التنسيق ووحدة العمل أهمية قصوى، حيث تكون الجماعة الراقصة في تناغم كامل. وحق السماء إنه لمنظر يبعث السعادة أن تر ى الكل في بهجة ومسرة، وتوطىء الأرض أرجلهم في لحظة واحدة. فنصيب الفرد في المشاركة لا يمكن أن تمحوها روح الجماعة. في واقع الأمر، هناك ثمة نقاط انعطافية في الرقص حين يعكف الراقصون على ترديد الهتافات الفردية تعبيراً لابتهاجاتهم، وتبجيلاً لأهمية الغنوة والرقصة حسب أذواقهم، وغلواً مستعظماً لكل راقص مبتهج.
في أمسية من الأمسيات، أو ليلة من الليالي المقمرة، وعند سماع أصوات الأبواق، أو أزيز الطبول فإذا جميع سكان القرية، صغيرهم وكبيرهم، يخرجون من كل فج عميق، وذلك بقضهم وقضيضهم؛ وإذا النساء قد تزين بأحلى ما لديهن من الثياب؛ وإذا الرجال قد لبسوا أجمل ما يملكون من الملبوسات؛ وإذا امرأة عجوز قد خرجت تحمل عصاها، وتتوكأ عليها، وتمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل، وتتوجه صوب المرقص الشعبي؛ ثم إذا الجميع كلهم يرقصون على إيقاع الدفوف، ونقرات الطبول، والعزف على المزامير، وسط العجيج والهجيج، ومن ثم تنشرح أساريرهم، وترتسم على وجوههم الابتسامات، وكذلك يقضون اللحظات الحميمية. وهناك ثمة فتيات اللواتي قصدن ذاك الملعب البلدي، وفي بال كل منهن أن تظفر بفتى حبيباً وزوجاً، ثم هناك من الفتية ما يصبون إلى ذلك المرام أيضاً، وقد صانوا أنفسهم عما يدنس أنفسهم، أو ما قد يصبح مثلباً عليهم.
ما أجمل هذه المناسبات حين تقام في ليلة مقمرة من ليالي الصيف الجميلة، حيث تكون السماء صافية والنسيم عليلاً، وليلتئذ يرسل القمر أشعته الفضية إلى الأرض فتملؤها بهاءً ونوراً. تلكم هي أجواء القرية، حيث بهجة النظر حين يحلو السمر، ويُذكر الربى والضحى المنتشر إذا تنفس الصبح، وحينئذٍ يمسح الندى فم الورد والزهر.
تلكم هي تقاليدنا وعاداتنا التي تمثل ارثنا، وحين يهجر المرء ارثه الثقافي – جزئياً كان هذا الهجر أم ملياً – فإنه ليعني نكران وجود الأجداد، ومساهماتهم التاريخية في الإرث الثقافي للأجيال الماضية والحاضرة والقادمة على حدٍ سواء. أفلا يحق لنا أن نحمي هذا الإرث الوطني التليد ضد الاندثار دون وجل أو ارتياب، وأن نحمله بما لنا من طاقة، ومن ثم نسلم المشعل إلى من يأتونا بعدنا! بلى!

الأربعاء، الموافق ٨ أيار (مايو) ٢٠٢٤م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

زر الذهاب إلى الأعلى