د.أبوبكر محمد أحمد إبراهيم يكتب: أزمة جيش أم أزمة وطن؟
قد أتفق مع الذين ينتقدون الجيش في طريقته التي يدير بها الحرب مع قوات الدعم السريع المتمردة، غير أني أرى أن هذه الحرب قد أفضت إلى أزمات متعددة من بينها أزمة الجيش نفسه، لأنه لو كان جيشًا قادرًا، أو كان يعمل في ظل نظام سياسي غير مأزوم، أو تحت قيادة تحترم المهنية، لما اعتمد يومًا ما على جنود مشاة يستقطبها نفر يأتمر بأمره فصيل مجتمعي، طُلب منه أن يعين الجيش (يا للمفارقة!) على ردع فصيل آخر تمرد على الدولة بعد أن عجز جيشها ونظامه السياسي عن إخضاعه أو الحوار معه، ثم صُعد ذات الشخص (سيء السمعة)، في لحظة غفلة أو خوف، ليصبح نائب رئيس السيادة، بتهليل وتصفيق جماهير أسلمت أمرها لقيادات نكرة لم تُختبر من قبل في شأن وطني عظيم، فقط عرفت بكراهيتها ‘للكيزان’!
إن هذا الوضع كان يمكن أن ينصلح لو كانت عندنا أحزاب تمارس السياسة ببوصلة وطنية، تتدارس تعقيدات الوضع الأمني والاقتصادي والعلاقات الخارجية بفقه السياسة، وتقاطعات المباديء والمصالح، وبفقه العدالة الانتقالية والمشتركات الوطنية، لكنها للأسف أثبتت أنها أحزاب لا تهتم إلا بإفساد خطط خصومها؛ كلهم هكذا، إسلاميين وطائفيين ووسط ويسار!
وقد زاد الطين بلة ضغف قادة الرأي الذين تحكمت فيهم السوشيال ميديا، فأصبحوا يتماهون مع من يصفق لهم، ليحصدوا متابعات صاعدة في النجومية الافتراضية بفقه الخوارزميات، مما أضعف القدرة على ضبط البوصلة الوطنية أكثر.
في ظل هذا الوضع، شبه العصي عن الإصلاح، وقعت -في 15 أبريل من العام الماضي، حرب همها إختطاف الدولة بأجندة الخارج، لم نعجز فقط عن ايقافها، لقد عجزنا -للأسف- حتى عن تطوير سردية واحدة تجاهلها!
وبالأمس تفاعلت المواقع الاجتماعية مع حادثة المذيعة البجاوية مع مديرها في التلفزيون القومي بانفعالات تنقصها الحكمة المطلوبة في وضع محتقن كالذي تمر به البلاد، وقد أدركت بعض الأقلام خطورة صب الزيت على نار الفتنة مع هكذا أزمات، فتناولت الواقعة بإضاءات مهنية، ليتها تصل المعنيين بالأمر.
سياسيًا، يلوح في الأفق أمل في حوار سوداني شامل يفضي إلى معالم هادية إلى إيقاف الحرب من خلال حزمة من التفاهمات. المأمول أن يصطف كل عقلاء الطيف السياسي معه، على أن الاصطفاف لصالح الوطن لا يكون بالتركيز على المصالح الحزبية العاجلة، ولا بتسمية الشخصيات القيادية المنحازة.
إن الحوار الذي يرسم الطريق إلى المستقبل لا يدار بالخطب السياسية ولا بالمناقشات العفوية على طاولة مستديرة أو مستطيلة، حوار كهذا يجب أن يُبنى على دراسات يُنتخب إليها المقتدرين على التفكير العلمي المسنود بتجرد وطني ممن يفقهون في رسم السياسات والتفكير الاستراتيجي.
لقد جربنا التفكير في ظل الهيجان الثوري، كما جربت البلاد من قبل حقب من الحكم الشمولي، أحادي الإرادة، والنتيجة ما نعيشه اليوم من هوان وضعف وفشل.
افسحوا المجال، إن كنتم تنشدون وطنًا معافى يسع الجميع، لمنهج جديد لمعالجة هذه الأزمة المركبة، منهج يراهن على الأفكار في رسم السياسات، وعلى السمات القيادية لدى من يتولون مهام القيادة في كل موقع من مواقع السيادة والتشريع والتنفيذ والرقابة والقضاء.
لنا أمل في الله، وفي الحوار المعزز لبقاء الدولة معافاة من أزماتها، وفي مستقبل وطن يجد فيه الجميع عزتهم وكرامتهم؛ وطن يحسن التعامل مع الإقليم والعالم برؤية وطنية تُحظى بالاحترام المجمع عليه، وتلتزم بها جميع مؤسسات الدولة والمجتمع.
فليسأل كل منا نفسه إن كان انفعاله مع أزمات بلادنا المنكوبة يزيدها تعقيدًا أم يسهم فيها بالمستطاع، عملًا بالهدي النبوي “لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق”. كونوا دعاة للحق والخير والفضيلة، واتركوا الجدال والسفسطة. والله غالب على أمره.